مصر: الأزمات بمفردها لا تصنع التغيير
التغيير مسألة وقت في مصر، لأن البلاد في أزمة حادّة منذ سنوات، ولأن المظالم تراكمت فيها بشكلٍ لم تشهده في تاريخها الحديث. هذه حقيقة، لكن التغيير قد يتأخر، وقد يكون شكليا، أمّا الوصول إلى التغيير الحقيقي المنشود فيتطلّب أمورا أخرى.
الأزمة والمظالم فقط لا تُغيّر الواقع، بل قد يدفع أسلوب التعامل معها إلى مزيد من التدهور. هناك دولٌ ظلت سنوات وعقودا في أزمات حادّة، ومرّت بحلقة خبيثة من الحكم المطلق والانقلابات والتمرّدات المسلحة والحروب الأهلية. والفشل في معالجة الأزمات الحادّة سبب رئيس من أسباب ظهور الأنظمة البوليسية والفاشية والشعبوية، وقد تكون مقدّمةً لفوضى عارمة لا تقضي على السياسة فقط، وإنما على مؤسسات الدولة أيضا.
ولكي نصل إلى تغيير حقيقي يتجنب هذا، تحتاج الأزمة أولا إلى الوعي بها وبآثارها المدمّرة وتداعياتها على الناس. وهذا متوفر بقدر جيد بين شرائح عديدة في مصر، وإنْ مَنَعَ إغلاق المجال العام ناساً كثيرين من التعبير عنها في شكل احتجاجاتٍ واعتصاماتٍ وإضرابات. وثانيا، تحتاج الأزمة والوعي معاً إلى رافعة وطنية مُنظمة (أي عمل جماعي منظّم في شكل ائتلاف واسع أو جبهة وطنية موسّعة أو تكتل وطني يجمع فئات المجتمع وأحزابه ومؤسساته) وقيادة منظّمة، وذلك حتى يمكن وضع أقدامنا على بداية الطريق من خلال عمل منظّم.
تحتاج الأزمة والوعي والرافعة الوطنية إلى الاتفاق على مشترك وطني جامع
هذا يعني أن التغيير الحقيقي، رغم كل هذه الأزمات، غير ممكن في ظل الانقسامات السياسية والاستقطاب السياسي والهوياتي، وفي ظل الاعتقاد بأنه يمكن إقصاء فكر أو فصيل أو مؤسسة، ولا طبعاً في ظل تسييس الجيش أو الاستقواء به. جرّب الجميع التغيير في ظل هذه الأمور وكانت التداعيات وخيمةً على الجميع وعلى الجيش نفسه، الذي جرى إقحامه في السياسة وتوريطه في أمورٍ ليست من مهامه. بدون هذه الرافعة الوطنية الجامعة، سيسيطر الطرف الأكثر قوة (أو حتى الأكثر دعما من الخارج للأسف الشديد) على المشهد من جديد. ولا ضمان أبدا أن يُوجّه هذا الطرف البلاد إلى الوجهة الصحيحة.
وثالثا، تحتاج الأزمة والوعي والرافعة الوطنية إلى الاتفاق على مشترك وطني جامع. ولا يمكن أن يكون هذا المشترك مجرّد الحديث عن الأزمات والبحث عن حلول لها فقط، وإنما لا بد أن يقترن هذا أيضا بالاتفاق على مشتركٍ آخر حول من يعالج هذه الأزمات، وكيف يعالجها، وفي أي سياق، أو ما السياق السياسي العام المناسب لمعالجتها؟ الاتفاق على آلية صنع القرارات ورسم السياسات العامة التي تعالج المشكلات يسبق وضع الحلول لهذه المشكلات... وبالتالي مسألة الشركات العسكرية وشروط البنك الدولي ليست هي جوهر المشكلة، ولا أزمة الجنيه، ولا قمع الحريات. هذه كلها مظاهر أو آليات أو تداعيات لجوهر الحكم المتّبع الذي تطوّر في السنوات الأخيرة إلى ما يقرب من "الحكم الفردي القمعي"، حيث يعتقد الحاكم الأوحد علنا أنه هو فقط الذي يفهم المشكلة في مصر، وهو فقط من يمتلك حلها، في تجاوزٍ عجيبٍ لقدرات الدولة المصرية بعقولها الفكرية في كل المجالات وبهيئاتها ومؤسساتها الوطنية ذات التاريخ العتيد. هذا موجود في تاريخ النظم السياسية، لكنه نادر، ونتائجه ونهايته معروفة.
المشترك الوطني الجامع هو حصيلة الاهتمام بآليات إدارة اختلافاتنا وعدم الثقة بيننا وبطرق إدارة التنافس بين برامجنا السياسية المتنوعة بما يحقق أكبر قدر من المصلحة العامة
كم من أفكارٍ وحلولٍ قُدّمت في عمليات سُمّيت "حواراً وطنياً"، لكنها ظلت حبراً على ورق، فمن ضمن آليات استمرار الأنظمة المستبدّة آلية استخدام "الحوارات الوطنية" لتفريغ طاقات الناس في الكلام، أو الحصول على قدر ما من الشرعية الزائفة، أو شراء بعض الوقت. وفي هذه الحالات، يُوعَد الناس بأخذ آرائهم ومخرجات الحوار في الاعتبار، لكن هذا لا يحدُث طالما ظل نمط الحكم المسؤول عن صنع المشكلات هو ذاته المخوّل بحلها والاستفادة من مخرجات الحوار.
وبناءً عليه، يجب ألا تكون هذه الأزمات والمشكلات المحور الوحيد للاهتمام خلال أي تغيير قادم. جرّبنا من قبل هذا النمط من التفكير، وشاهدنا تحرّك أطراف عدة لتحقيق مصالحها الذاتية، أو لمواجهة ما تعتقده تهديدا لمصالحها. وشاهدنا أيضا نزول فئاتٍ عديدة لتطالب الآخر (أيًا كان) بحل مشكلاتها، استنادا إلى مقولة مدمّرة، شاعت وقتها، مفادها بأن "أية فئة لا تأخذ حقوقها الآن لن تأخذه أبدا"، وكأن الثورة آلية مضمونة للحصول الفوري على المطالب. كانت النتيجة امتلاء المجال العام بالحديث عن المشكلات والأزمات فقط، وانحسار مساحة النقاش بشأن آليات صنع القرار ومؤسساته، أو ما أسميه هنا المشترك الوطني الجامع.
هذا المشترك هو حصيلة النقاش الذي يهتم بكيف يتحوّل المصريون، عبر آليات دستورية وقانونية ومؤسسية، إلى مواطنين متساوين في الواجبات والحقوق، وإلى شركاء حقيقيين في إدارة بلدهم واستخدام مواردها وتوزيع خيراتها بطرق عادلة وشفافة، وعبر مؤسّسات وطنية تُمكن مراقبتها ومحاسبة المسؤولين فيها. أي: من يصنع القرارات ويدير الدولة ويعالج الأزمات، وكيف يتم هذا، وما السياق السياسي العام المطلوب لمعالجتها.
المشترك الوطني الجامع هو حصيلة الاهتمام بآليات إدارة اختلافاتنا وعدم الثقة بيننا وبطرق إدارة التنافس بين برامجنا السياسية المتنوعة بما يحقق أكبر قدر من المصلحة العامة، والاهتمام بكيفية الحفاظ على مؤسّسات الدولة وفتح المجال العام للاستفادة من قدراتها وقدرات أفرادها. أي بالشكل الجديد للحكم القادر على معالجة هذه المشكلات على أسسٍ حقيقية، يشعر الناس معها أن هذه الحلول تعبّر فعلا عن مصالحهم بقدر كبير، لأنها تضمن لهم العدالة (وليس الظلم وترسيخ الامتيازات والاستثناءات)، والمشاركة (وليس الإقصاء أو انفراد فئة أو مؤسّسة بالحكم)، وحكم القانون والمساواة أمامه (وليس التلاعب بالقوانين والالتفاف عليها وهندستها لصالح فئة أو جماعة)، والشفافية (وليس حجب المعلومات والسيطرة على العقول وادّعاء احتكار الحقيقة). وهذا كله يعني الاهتمام بكيفية صناعة المستقبل.
التغيير الحقيقي، برغم كل الأزمات في مصر، غير ممكن في ظل الانقسامات السياسية والاستقطاب السياسي والهوياتي
إذا تم الاتفاق على هذا المشترك الوطني الجامع، فسيكون لدينا نظام سياسي (بقيمه ومبادئه ومؤسساته وآلياته وضماناته) يحقق مصالح الجميع معا. الجميع فيه منتصر ولو جزئيا، لأن بإمكان الجميع دوما استخدام الآليات نفسها للدفاع عن مصالحهم، والسعي إلى تحقيقها بطرق سلمية. ويحافظ هذا النظام السياسي على مؤسّسات الدولة ويعزّز قدراتها وفعاليتها، ولا يهدّدها كما يُشاع. وبخصوص المؤسسة العسكرية تحديدا، لا يحافظ النظام السياسي المنشود فقط على وحدتها وقدراتها، وإنما أيضا يعزّز مهنيتها وفعاليتها ومواردها وميزانياتها، فالأمن القومي غاية عليا، وليس محلّ مساومة، وبدونه لا يمكن تصوّر تحقيق أي أهدافٍ أخرى.
وأي حوار وطني أو نقاش على مائدة مستديرة أو مؤتمر وطني جامع أو فترة انتقالية تعقب أو تواكب أي حراك أو تغيير، لا بدّ أن يكون هدفها الوصول إلى هذه الأمور الجامعة، وليس أخذ قراراتٍ مصيريةٍ بشكل منفرد أو بناء نظام على مقاس طرفٍ ما، وذلك حتى تظهر مؤسّسات منتخبة (لها شرعية شعبية حقيقية)، وتُمكن مراقبتها ومحاسبتها نتيجة لذلك الحوار أو النقاش. هذه المؤسّسات هي التي ستعالج الأزمات والمشكلات التي نعاني منها. والأمر يحتاج وقتاً وصبراً، وقبل كل شيء يحتاج رؤية محدّدة.
باختصار: الأزمات محرّكات ومحفزات ودوافع، وستجرى معالجتها ضمن حل المسألة الوطنية المصرية كلها بعد أن نتفق أولاً على نمط حديث للحكم وإدارة الدولة. الحديث عن المشكلات فقط خلال أي مرحلة حوار أو تغيير قد يمثّل عقبة أساسية أمام معالجة هذه المشكلات، ما لم يقترن بالتفكير في تغيير جوهر ممارسة الحكم وصنع السياسات.