مصر... إعلام ضد وعي الجمهور

02 مايو 2015
+ الخط -

يعد جوزيف غوبلز، وزير إعلام هتلر، من أهم الذين وظفوا وسائل الإعلام لخدمة النازية وترويج أفكارها، وقد ابتكر فن صناعة الكذب، للسيطرة على عقول عشرات الملايين وقلوبهم، وإقناعهم بالفكر النازي. وقد صور إعلام غوبلز للألمان أن هتلر المنقذ لهم ولألمانيا، وجعل وسائل الإعلام كلها تتحدث عن الخطة اليهودية الماركسية لغزو ألمانيا والعالم، وعن الخونة والعملاء الذين يُريدون أن يُفتتوا الجيش الألماني، وكان عبقريًا أيضًا في العثور على كبش فداء يلقي عليه باللوم على ما يلحق بشعبه من مصائب وكوارث. وقد أيقن غوبلز أن من يملك وسائل الإعلام هو صاحب القول الفصل، وهناك أقوال شهيرة له، مثل "اكذب ثم اكذب واكذب أكثر.. وأخيرًا سيضطر الناس لتصديقك"، و"أعطني إعلاما بلا ضمير أعطك شعبا بلا وعي". ولكن، لم يكن الوزير غوبلز يعلم أن ما صنعه من أكاذيب وزيَّفَهُ من حقائق، وما روجه من تخاريف، سيأتي يومٌ ويحذو حذوه الإعلام المصري.

دور الإعلام من أخطر الأدوار التي تلعبها حكومات الدول المستبدة لإقناع الجماهير والرأي العام بسياسة معينة أو خط سير محدد، للسيطرة على عقولهم وقلوبهم، وعندما تسيطر على القلوب والعقول تجعلهم طائعين، عندها تستطيع أن تسيّرها كيفما تشاء. وإعلام عبد الفتاح السيسي يتعامل باستراتيجية واحدة، هي الإيمان (بلاعقلانية الجماهير ضمنياً، ثم التظاهر في الوقت نفسه بأنها عقلانية ومنطقية). أي أنهم يدركون جيدًا أن الجماهير، في العموم، تحركها العواطف المتطرفة، فيستخدمون معهم الشعارات العنيفة، ويكررونها، ويبالغون فيها حتى يصدقها الجمهور، وأنها أيضا غير ميالة كثيرًا للتأمل، وتميل إلى تصديق أي شيء يقال لها. انظر كيف صدق الناس أن شقيق باراك أوباما من الإخوان المسلمين، وعضو في التنظيم الدولي للجماعة، أو أن السيسي أسر قائد الأسطول السادس الأميركي من دون أن يطلق رصاصة، وتجده في النهاية (أي الجمهور) يتلقى عن طيب خاطر ما يقال له في ظل حالة المحرضات التي يتعرض لها، والتي وصلت إلى ذروتها من الشحن المعنوي.

مثلاً، بعد كارثة التسريبات المتتالية المتورط فيها قيادات الجيش ومكتب السيسي، والذي تَبَيَّنَ بعدها كيف تُدار مصر، وكأنها عزبة يمتلكها بعض الجنرالات، يفعلون بها ما يحلو لهم بلا رقيب أو حسيب على أفعالهم، تجد إعلام السيسي بعدها مباشرة يعمل على اللعب على عواطف الناس ومشاعرهم، ويظهرون، في وقت واحد، ليقولوا جُمَلا مكررة، مثل فزاعة الإرهاب والاستقرار، ويتحدثون عن المؤامرات التي تُحاك ضد مصر، وأن هناك أيادي خارجية وداخلية تُحاول زعزعة استقرار البلاد، متمثلة في أميركا وإسرائيل أو قطر وتركيا وإيران، في محاولة منهم لإقناع الناس بأن هذه التسريبات عمل مخابراتي، وأن المكالمات المتورط فيها قادة الجيش مزيفة.

فهم يظهرون على شاشات التليفزيون، وهم يرتدون أقنعة، وكأنهم في حفلة تنكرية أو مسرحية هزلية، الأدوار فيها تكون محددة وموزعة بعناية. وبالطبع، يتم تطويع هذه الأدوار وتنفيذها على حسب أسلوب كل فرد منهم، وعلى حسب نوعية الجماهير التي يخاطبها، لكي يقولوا ما يدغدغ مشاعر الناس، لا أن يقولوا ما تمليه عليهم ضمائرهم، في تعمد تام لتغييب العقل الجمعي للناس وتزييفه، ويفصلون، بشكل متعمد، يدعو إلى الاشمئزاز، الحقيقة (السوسيولوجية) (أي الأفكار الشائعة لدي الجمهور والتي يُشبعونهم بها ليلاً ونهاراً والتي هي خاطئة في الواقع، حتى تُمسي لهم (الجمهور) حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش.

يُدركون جيدًا أن الغالبية العظمى من الجمهور الذي يتلقى يوميًا من برامج التوك شو والنشرات الإخبارية هذا الكم الهائل من الكذب والتزييف وقلب الحقائق، لا يملك إلا تصديقها، بل والانصياع لها، بعدما تم تأهيله نفسيا ومعنويا وسياسيا واجتماعيا، لتصديق كل هذا على مدار سنوات سابقة. وبالطبع، كل هذا ناتج أيضًا عن تشويه هائل وتضخيم هائل للأحداث.

ولا شك في أن دولة الاستبداد تحارب أي صوت مستقل يغرد خارج حظيرة إعلامها الشاذ، فتطلق عليه إما رجال الأعمال أصحاب هذه القنوات الفضائية التي يعمل فيها، والذين تربطهم مصالح مباشرة مع الدولة، أو محامين يرفعون عليه دعاوى قضائية بأي تهمة بلهاء، مثل إهانة رئيس الجمهورية أو خدش الحياء العام، لأن هذا الصوت المستقل يعمل على تفتيت العقل الجمعي للناس، والذي يمشي وراء ما يقال له كأنه منوم مغناطيسيًا، ويحوله إلى عقل فردي قادر على التحليل والنقد.

في كتابه (سيكولوجية الجماهير)، صنّف غوستاف لوبون العقلية الفردية والعقلية الجمعية، ورأى أن العقلية الفردية نقدية بطبيعتها، قادرة على تمييز الحق من الباطل، لأنها تعمل على إعمال العقل، فعندما تتلقى المعلومة، تقوم بتحليلها ثم نقدها، وطرح وجهة النظر المغايرة لها، أو تعديلها، فهذه العقلية لا يتم التأثير عليها عندما تكون منفردة.

أما العقلية الجماعية، أو الجمعية، فهي عقلية عندما تخرج من إطار العقلية الفردية تتحول إلى إنسان آلي، تحركها فطرتها، وما يتم تغذيتها به من أفكار، فمن الممكن أن تصبح دموية، مثلما حدث بعد تهيئة إعلام السيسي للناس أن هناك حرباً على الإرهاب، وتم ارتكاب مجازر مثل الحرس الجمهوري ورابعة وسيارة الترحيلات ومجزرة إستاد الدفاع الجوي، رأينا أن العقل الجمعي للناس مؤيد تلك المجازر، بل مهلل لها، ومبرر كل ما يحدث، حتى لو خالف هذا عقله ومنطقه وفطرته السليمة. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يتم تغذية هذه الجماهير بالمبادئ والقيم والمثل العليا، مثلما حدث عقب ثورة يناير، وكيف تحول ميدان التحرير خلال الثمانية عشر يوماً إلى ما يشبه المدينة الفاضلة، وسمعنا جميعاً المقولة الشهيرة أن هذه الفترة أظهرت أجمل ما فينا، وهذا بالضبط ما تخشاه دولة الاستبداد.

ولكن، لا تعي دولة الاستبداد دروس الماضي وعبره، لم تع أن البطل الزائف الذي تصفق له الجماهير اليوم ستحتقره في الغد، وسيكون رد فعلها ضده عنيفاً، وستضعه تحت نعالها، بقدر ما كانت ترفعه إلى عنان السماء، وأن مصائر الطغاة دائمًا ما تتشابه، مثلما تشابهوا في طغيانهم واستبدادهم، لأنه لا يوجد على مر التاريخ مستبد ذكي.

B05F1A13-0A18-42AD-B939-398734E70692
صفوان محمد

ناشط سياسي مصري، من رموز شباب ثورة 25 يناير