مشكلة إسرائيل العالمية

13 يناير 2024
+ الخط -

تعود إسرائيل مجدّداً، وتفعل ما تجيده، مستخدمةً الأساليب التي تتقنها، وتعود إلى قصف غزّة، رداً على هجمات حماس في 7 أكتوبر، قصف لا تسلم منه المشافي ولا المدارس والمساجد والكنائس والمطاعم الخيرية، وتدكّ الأحياء على أهلها، ولا تدّخر طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً فانياً، وتنفذ، باختصار سياستها في التطهير العرقي والإبادة الجماعية. وإذ ترتكب إسرائيل ذلك كله وتقترف المجازر، فإنها تسخّر علاقاتها العامة والدولية، وتبذُل جهودها من أجل التستّر على هذه الجرائم الوحشية. وتأخذ الصحافة العالمية والإدارة الأميركية وبعض القادة الأوروبيين مكانها في تحميل "حماس" مسؤولية هذا المشهد. وهكذا، يظهر المشهد في غاية الوضوح: إسرائيل لا تخشى، في ظل هذا الدعم الدولي، وفي مقدمته أميركا، من أن تتحوّل إلى آلة قتل.

يمكننا، بالتأكيد، تفسير هذه العملية وربطها بأسباب سياسية عديدة، لكن الأهم هو الوقوف عند ماهية دولة إسرائيل... منذ تأسيسها، لم تكن إسرائيل مجرّد مشكلة شرق أوسطية، ولا مشكلة عرب أو مسلمين فحسب، بل كانت ولا تزال مشكلة العالم كله، فالسجل الإجرامي لمؤسّسي إسرائيل يعود إلى فترة طويلة قبل بناء إسرائيل، فهذا الكيان الذي أسّس منذ بدايات القرن العشرين منظماته الإرهابية، وعمَد إلى قتل العرب والأتراك المسلمين والمسيحيين، واقتلاعهم من أرضهم وتهجيرهم قبل أن يكون دولة؛ لا يزال يفعل الشيء نفسه تحت سقف الدولة منذ 1948.

لقد تأسّست إسرائيل بالمجازر والاحتلال. ولا تزال المجازر التي ارتكبتها منظمّتا "أرغون" و"هاغاناه" وغيرهما من المنظمّات الصهيونية، في بلدة الشيخ (1947) ودير ياسين وشوشا وناصر الدين (1948)، يرويها أعضاء المنظمّات الذين شهدوا تلك المجازر. وقيام إسرائيل وتأسيسها دولة لم يمنعاها من ارتكاب المجازر المماثلة والاستيلاء على الأراضي الجديدة. وبينما كان المنتظر منها بوصفها دولة حديثة أن تمتثل لمعايير الأمم المتحدة وقواعدها، والأعراف والاتفاقيات الدولية؛ لم تلتزم بالقرارات أو المعايير الدولية، ووضعت نفسَها في مكانة استثنائية فوق جميع أنواع القواعد والأعراف.

وضعت إسرائيل نفسَها في مكانة استثنائية فوق جميع أنواع القواعد والأعراف

إسرائيل إذاً، دولة احتلال واستيطان. لا ترى أي بأسٍ في تهجير المسيحيين (رغم أعدادهم القليلة) والمسلمين من أراضيهم، واستيطانها، وتوطين اليهود فيها، بصورة ممنهجة منذ ما يزيد عن قرن. والطريقة المنهجية المتبعة في ذلك هي التطهير العرقي والسرقة العلنية التي يسمّونها "الاستيطان".

يندُر في التاريخ استخدام "طريقة الاستيطان" التي تتبعها إسرائيل، وتتجاوز السياسات الاستعمارية التي اتّبعتها الدول الأوروبية في العصر الحديث، فقد نهب الأوروبيون موارد البلدان المستعمرة، وأسّسوا فيها نظاماً يمكِّنهم من الاستمرار في نهبها، ولم يتردّدوا في ارتكاب المجازر في سبيل ذلك عند الضرورة. لكن لإسرائيل شأناً آخر، فهي لا تريد نهب موارد الفلسطينيين الاقتصادية فحسب، بل أيضاً تهجيرهم والاستيطان في أرضهم، وترتكب في سبيل ذلك اغتصاب الأراضي والمجازر والإبادة الجماعية. وللأسف، يبدو أنها ستبقى كذلك حتى تبتلع الأراضي الفلسطينية كلها. بل أكثر من ذلك، إذ ليس هناك ما يضمن أنها ستتوقّف حتى لو احتلّت غزّة والضفة الغربية والقدس بأكملها، لأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي ليست لها حدود واضحة في هذا العالم، وليس بعيداً أن تزعم الحقوق في أراضٍ أخرى وتحتلها، فهي دولة لا تعترف بقواعد القانون الدولي، ولا تحترم الأعراف السياسية الدولية، وليس لديها ما يقيّد حركتها غير الدوافع الأمنية، واللغة الوحيدة التي تستخدمها هي لغة الحرب، والأسلوب الوحيد الذي تستخدمه هو الأسلوب العسكري، وهي الدولة التي لم تنتج أدنى درجات الرضا في محيطها منذ عام 1948، ولم تُبد استعدادها للاعتراف بسيادة البلدان الأخرى، ومعلوم أن هذا الاعتراف هو السمة الأساسية للنظام الدولي. وهي بالتالي، ليست دولة قومية أو وطنية حديثة، بل هي دولة ليس لها مثيل في النظام الدولي الحالي الذي يقوم على معايير القوى الغربية. تقصف المدنيين أكثر من غيرهم، وتقتل الأطفال أكثر من غيرهم، وتدمّر شعور إمكانية التعايش معها، وتقوم بذلك كله في ظل مزاعم الحقّ التي تدّعيها.

لا تريد إسرائيل نهب موارد الفلسطينيين الاقتصادية فحسب، بل أيضاً تهجيرهم والاستيطان في أرضهم، وترتكب في سبيل ذلك اغتصاب الأراضي والمجازر والإبادة الجماعية

إلى أي مدى يمكن التعامل فيه على أرضية سياسية أو قانونية مع دولة لا ترى حماية شعبها في غير العنف والحرب، وتسعى جاهدة إلى إبقاء شعبها في حالة حرب نفسية، ولا تميّز بين مدني وغير مدني؟ والذين يحتفلون اليوم بقصف غزّة يقولون لنا الكثير في هذا المعنى، فهذا الموقف لم يكن الأول في هذا السياق، بل فعلوا الشيء نفسه في عدواني 2008 و2014.

تنتج إسرائيل، كما ذُكر في بداية المقال، استراتيجيتها من خلال فرض استثنائيتها. وأي علاقة مع إسرائيل في ظل البقاء في هذا الإطار ستكرّس دائماً حصانة هذا الموقف الإسرائيلي. والتصريحات التي يدلي بها القادة الغربيون، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وإنجلترا وألمانيا، عن حقّ إسرائيل في سيادتها، تحمل طابعاً خطابياً موجّهاً لبناء إسرائيل باعتبارها دولة طبيعية. ولا يخفى للعيان أن هذه التصريحات والمناشدات غير كافية، فلن تقبل إسرائيل التحوّل إلى دولة قومية قياسية ما لم تتجسّد هذه الخطابات في سياسات، وتفرض عقوباتٍ إذا لزم الأمر. فالعالم أمامه طريقان: أن يحمل إسرائيل على أن تكون جزءاً من النظام الحالي، رغم ثغراته وضعفه، أو يرضى بالشروط التي تحاول إسرائيل فرضها على العالم كله.

فيصل كورت
فيصل كورت
أكاديمي تركي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة إسطنبول مدنيات، متخصّص في قضايا الأمن والجيش والسياسة والمنظمّات غير الحكومية في الشرق الأوسط