مشاعر عربية هاجعة أيقظها المونديال
لدينا أربعة مشاهد بصرية لا تخطئها عين المراقب، ناجمة عن أربع وقائع متتالية أنتجها مونديال قطر في أسبوعه الأول، تدلّ كلٌّ منها، وفي مجموعها أيضاً، على انبعاث روحٍ عربيةٍ جامعةٍ كانت في سبات منذ سنوات طوال، جرّاء ما ألمّ بهذه الأمة من جراح اصابت الوجدان المشترك، وبفعل ما نزل بها من كوارث أدّت في ما أدّت إليه من تقهقر، إلى سعي شعوبها، كلّ على حدة، إلى تحقيق خلاصها من التهديدات المحدقة، وتدبير شؤونها الخاصة بما تيسّر، الأمر الذي أنام الضمير الجمعي، وأدّى إلى تبهيت المشاعر القومية، إن لم نقل تبدّدها بهذا القدر أو ذاك، تبعاً لقرب هذه الدولة أو تلك من مركز الأخطار.
ليس الحديث هنا عن تحولات سياسية أو عن تبدلات في الموقف العربي العام إزاء أيٍّ من القضايا المطروحة على جدول الأعمال، وإنما القصد تشخيص مظاهر مؤشّرة، بقوة، على استيقاظ مشاعر قوميةٍ مشتركةٍ فجأة، واحتدام عواطف شعبية راحت تتأجّج من دون سابق إنذار، وذلك على هدي ما أفرزه هذا المونديال من حقائق يمكن الوقوف عليها مباشرة، من خلال سيل الصور التلفزيونية المتدفقة في آناء الليل وأطراف النهار، ناهيك عن الأقوال والتعليقات المبثوثة على صدر الصفحات ومنصّات التواصل الاجتماعي، في الفضاء الإعلامي العام.
المشهد الابتدائي الأول، الدالّ على هذه اليقظة الشعورية العارمة، كان ماثلاً، على نحو لافت، في مشاركة زعماء عرب، أو من يقوم مقامهم، في حفل افتتاح المونديال، أحسب أنه كان أكبر عدداً ممن حضروا قمّة الجزائر قبل بضعة أسابيع، وأنّ ما شهده حفل الاستقبال، بُعيد انتهاء حفل الافتتاح، كان أكثر إنتاجية من دون إعلان، وفي ذلك وحده دلالة قاطعة على روح التضامن مع أصحاب الحفل البهيج، وعلى نهوض مشاعر الوحدة الضميرية العربية، في لحظة قَطريةٍ باذخة بالتحقّق والتكريم والاعتراف، والإنجاز الذي يعلو ولا يُعلى عليه في مضمار تنظيم مباريات كأس العالم واستضافتها على خير ما يرام.
المشهد الثاني المتداخل مع الأول كان ماثلاً بقوة شديدة في حفل الافتتاح نفسه، الذي تجلّى في أحسن صورة ممكنة، قياساً بما سبقه من نسخ افتتاحية سابقة، الأمر الذي بعث شعوراً فائضاً بالاعتزاز والثقة بالنفس، ليس لدى القطريين وحدهم، وإنما أيضاً لدى العرب عامة، ممن راقبوا المشهد من المدرّجات ومن أمام الشاشات، وهم يضعون أيديهم على قلوبهم تحسّباً مما قد يحدُث من مفاجآت، فجاءت فقرات الحفل رائعة وممتعة، بل أعلى من درجة التوقعات المسبقة، وهو ما غمر النفوس القلقة بالاطمئنان، وزادها اعتداداً بالذات القومية، وبقدرة العقل العربي على صناعة الفرح بأرفع المستويات الحضارية، حيث انعكس ذلك كله عبر منصّات التواصل الاجتماعي، وفي تعليقات الكتّاب العرب من داخل قطر ومن خارجها.
المشهد الثالث المجسّد للمشاعر العربية، التي كانت هاجعة كجمرة تحت طبقةٍ خفيفةٍ من الرماد، تمثل في حالة الالتياع التي عمّت الفضاء الإعلامي العربي، خصوصا الفضاء الرياضي، إثر خسارة الفريق القطري مباراته الأولى في المونديال، الأمر الذي ملأ الصفحات الإلكترونية حزناً لا يخلو من الغضب، إزاء أداء هذا الفريق الكروي المخيّب للآمال، وتدنّي فعاليته بصورةٍ لا تتفق مع سجله الجيّد في المناسبات القارّية والإقليمية السابقة، ولا يتناسب مع كونه ممثلاً للبلد المضيف، الأمر الذي كاد أن يشوّش على المشهد البديع، وأن يُعتّم على أضواء حفل الافتتاح، لولا أنّ هذه الأضواء كانت ساطعة بقوة لا تقاوم، ولا ينال منها مثل هذا الإخفاق الذي مسّ المعنويات.
المشهد الرابع من هذه المشاهد المتناسخة بعضها عن بعض، تكوّن على نحو مباغت، وبصورة كلية جامعة، حين فاز الفريق الكروي السعودي على خصمه الأرجنتين المرشّح للتتويج بالكأس، وحقق ما لم يكن في الحسابات، الأمر الذي أطلق المشاعر العربية الكامنة من عقالها، وأثلج القلوب الجريحة بهذا الإنجاز من الماء إلى الماء، وملأها فخراً بهذا الكسب المعنوي الذي لم يخطر على بال، في مشهد شعوري شامل، كاد أن يلامس (مع فوارق كثيرة) تلك الحالة التي كان عليها الوضع العربي لحظة حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1974، إذ لم يشذّ تعليق واحد من النشطاء والكتاب والمعلقين عن حالة الإجماع العربي التام، ولا عن تثمين هذا المعطى شبه السياسي، بمن فيهم المعجبون بفريق الأرجنتين ونجمه اللامع ليونيل ميسي.