في مسؤولية قيس سعيّد وأنصاره عن تخريب الانتقال الديمقراطي في تونس

13 يوليو 2022
+ الخط -

يعلن قيس سعيّد وأنصاره (القليلون)، صباح مساء، أنه جاء لينقذ تونس من كارثةٍ تسبّبت فيها الديمقراطية، وتحديداً القوى السياسية التي قادت الديمقراطية خلال العشرية السابقة. وتستصحب هذه الرؤية أن سعيّد وفئته لم يكن لهما أي دور في عرقلة الديمقراطية، وتعطيل أداء الدولة. والحقيقة أنّ سعيّد هو المسؤول الأول عن تلك العرقلة، خصوصاً خلال فترة رئاسته، فمنذ انتخب للرئاسة في عام 2019، اجتهد في إسقاط الحكومة القائمة، والإصرار على تعيين حكومةٍ تتبع له، مخالفاً الدستور ومستخدماً الابتزاز والاحتيال لتحقيق هذه الغاية. وقد خضع البرلمان له، بسبب الابتزاز ووجود مناصرين له، وبسبب تسامح حزب النهضة وحرصه على ألّا يوصم بالعرقلة.

استبعد سعيّد، في يوليو/ تموز 2020، حكومة إلياس الفخفاخ بعد أقل من خمسة أشهر على تعيينها، وعيّن هشام المشيشي رئيساً للوزراء، ومعه مجموعة من الوزراء التابعين له. هذا برغم أنّ حكومة الفخفاخ كانت إحدى أنجح الحكومات في الفترة الديمقراطية، فقد نجحت، خلال أشهرها القليلة، في أن تجعل تونس من الدول القليلة في العالم (إن لم تكن الأولى) التي سيطرت على جائحة كوفيد - 19. وهذا من دون أن تكون لها الموارد والنظام الصحي المتقدّم التي تمتعت بها دول مثل الولايات المتحدة. مهما يكن، كان فهم سعيّد للوضع أنّ حكومة المشيشي حكومته، وأنّه أصبح المهيمن على السلطة التنفيذية، وعبر وزرائه المعينين، في مخالفة واضحة للدستور.

وكانت المفارقة أنّ المشيشي، وزيره الأول المعيّن، انحاز للدستور ورفض إملاءات سعيّد غير الدستورية، ما ولّد عند الأخير غضباً لا ينطفئ، وحقداً مريراً ودائماً على الدستور والبرلمان، وكلّ الكوابح المؤسسية والقانونية والدستورية التي تحصّن البلاد ضد الاستبداد. وعلى هذا الأساس، تحول سعيّد إلى المعارض الأكبر للحكم في البلاد، بحيث أصبح القصر الجمهوري أكثر جهاز تخريبٍ للدولة وللدستور، وأكبر معرقل في سبيل تنفيذ سياسات الدولة وحفظ مصالح المواطنين. وقد بذل كلّ ما في وسعه لتعطيل دولاب الحكم، إذ ظلّ يرفض استقبال وزراء جدد عُينوا بحسب الدستور وصادق عليهم البرلمان، لأداء القسم. وبهذا، حوّل سعيد منصب رئيس الجمهورية، وهو منصب شرفي سلطته الوحيدة البصم على قرارات البرلمان والحكومة، إلى سلطةٍ تنفيذية – تشريعية - قضائية موازية، ومنبر للخطابة والنواح والتحريض ضد الدولة ومؤسّساتها.

أصبحت المؤسّسات الدستورية كلها مثار سخرية واحتقار، فهناك رئيس يعيش في العصور الوسطى، ويكتب رسائله باليد ويبعثها في "طرس" على يد رسول

وقد أيدته في ذلك قوى سياسية، بعضها كان ممثلاً في البرلمان، ما جعل من البرلمان أضحوكةً، بسبب الممارسات الهزلية التي طغت على ساحته. وهكذا أصبحت المؤسّسات الدستورية كلها مثار سخرية واحتقار، فهناك رئيس يعيش في العصور الوسطى، ويكتب رسائله باليد ويبعثها في "طرس" على يد رسول (يركب حصاناً؟) ويوازي شخصية عادل إمام في فيلم "رسالة إلى الوالي" أو غيرها من مسرحيات الكوميديا السوداء، وبرلمان يمارس بعض أعضائه التمثيل المبتذل، إن لم نقل المخزي، أمام كاميرات التلفزيون، حتى أوشكت تونس أن تصبح مصر المتنبي التي ضحكت من جهلها الأمم. وكان سعيّد وهزلياته من أكثر الهراء إضحاكاً.

لم تبدأ عملية التعطيل لمؤسسات الدولة من خارجها في عهد قيس سعيّد، ولكنه حوّلها إلى حرفة ومهارة، وكرّس فعاليتها. فطوال الفترة الانتقالية، باستثناء جزئي لفترة الترويكا التي استفادت من الزخم الثوري، كانت هناك قوى من خارج الحكم تبذل قصارى جهدها لعرقلة مؤسّسات الدولة، وحرمان القوى التي انتخبها الشعب من القيام بمهام الحكم التي كلّفت بها. وقد كان لهذا أثره في ثقة الشعب بالعملية الانتخابية وبمؤسسات الحكم عموماً. ويشمل ذلك بعض القوى السياسية التي كانت تنتهز وقوع بعض الأحداث الأمنية، لتصبح هي بدورها مهدّداً لأمن البلاد واستقرارها، وذلك عبر إلقاء التهم جزافاً، مع وجود أجهزة أمن وقضاء هي المسؤولة عن التحقيق في هذه الحوادث، ولاسيما المتهمين، والقبض عليهم وتقديمهم للعدالة. وكان كثيرون من أفراد هذه القوات يدفعون أرواحهم في محاربة القوى الإرهابية.

قبيل نهاية الفترة البرلمانية الأولى، أجبرت حركة النهضة وحلفاؤها في الترويكا على حل الحكومة المنتخبة، واستبدالها بحكومة من المستقلين، ظلت في السلطة حتى الانتخابات في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، التي فاز فيها حزب نداء تونس بالرئاسة وأكبر حصّة في البرلمان، وظل في الحكم حتى انتخابات 2019، بدعم من حركة النهضة. في انتخابات 2019، حصلت "النهضة" على أكبر حصة في مجلس نواب الشعب، ولكنها فشلت في تشكيل ائتلافٍ للحكم، إلّا مع حزب قلب تونس الذي جمع مع فساد قادته ارتباطه بماضي تونس غير الديمقراطي. ورغم أنّ المصالحة مع الإخوة في الوطن محمودة، فإنّها لا يمكن تكون مصالحةً مع الفساد، ولا مع أنصار الاستبداد غير التائبين.

الأحزاب التي فشلت في الانتخابات ظلت تمارس الضغط على القوى المنتخبة بكلّ الوسائل، حتى تسلّم السلطة إلى جهاتٍ غير منتخبة

لهذا كله، كان انتقادنا حركة النهضة يتركّز على مواقفها التصالحية أكثر من اللازم، وليس على تشدّدها، فبالرغم من أهمية التصالح والموازنات في الديمقراطيات، هناك أهمية خاصة للمواقف، فعندما يختار الناخبون حزباً أو زعيماً، يكون الخيار على أساس المواقف والوعود. وفي حال تعذّر الثبات على المواقف أو تنفيذ الوعود، من الواجب على الحزب أو القائد أن يصارح الجماهير بالعوائق الموجودة، ويتخذ الخطوات المتسقة مع المبادئ والمواقف، حتى لو أدّى ذلك إلى الانسحاب من السلطة والعودة إلى الشعب ليقول رأيه.

ما حدث في تونس أن الأحزاب التي فشلت في الانتخابات ظلت تمارس الضغط على القوى المنتخبة بكل الوسائل، حتى تسلم السلطة إلى جهاتٍ غير منتخبة، سواء أكانت تلك "شخصيات مستقلة"، أم "تكنوقراط"، أم جهات ترشّحها الرئاسة، أو تتبنّاها النقابات، إلخ. وكانت النتيجة هيمنة من رفضهم الشعب على الساحة السياسية، وفرض الحكومات. وفي المقابل، تقع على عاتق من انتخبوا للقيادة المسؤولية عن تدهور الأوضاع، رغم أنهم سلموا هذه المسؤولية طائعين لغيرهم. وهم بالطبع مسؤولون، لأنّه كان من واجبهم أن يخرُجوا على الملأ ويسمّوا الأشياء بأسمائها، ويطلبوا من الشعب حكمه بينهم وبين خصومهم.

وفي الوقت نفسه، لا يحقّ لمن كانوا السبب في تعطيل دولاب الحكم، وظلوا يستخدمون كل وسيلة لعرقلة أيّ إصلاح حتى يكون خراب البلاد رصيداً لهم ضد من انتخبهم الشعب، أن يتقدّموا الصفوف اليوم بدعوى أنهم هم المنقذون، بينما غيرهم هم وحدهم المسؤولون عنما حلّ بالبلاد. ذلك أن هذه الفئة، وعلى رأسها قيس سعيّد وكثيرون من المسبّحين بحمده، يتحمّلون المسؤولية الأكبر في الأزمة الحالية، ليس فقط لما فعلوه خلال العقد الماضي، بل لما فعلوه قبيل عام الانقلاب وفي أثنائه، وما يفعلونه اليوم، وما ينوون فعله، وما سيحدث للبلاد بسبب ذلك.

لم يكتفِ قيس سعيّد والملتفون حوله بإنجازاتهم في تخريب الحياة السياسية الديمقراطية في تونس وتشويه صورتها، وتعطيل كل ما يمكن تعطيله، بل واصلوا ذلك بعد الانقلاب، فعلى الرغم من أن سعيّد جمع في يديه السلطات جميعها، وقضى جل العام الماضي وهو يصدر الفرمانات والمراسيم، إلا أنه لم يتخذ خطوة واحدة بنّاءة لإصلاح الاقتصاد، أو تقديم الفاسدين إلى العدالة، أو تقديم العون إلى المعوزين. بل بالعكس، قضى معظم الماضي وهو يخرّب ما بقي من مؤسسات الدولة من حكومة وبرلمان وأجهزة عدلية وبيروقراطيات خدمية، بينما حوّل الأجهزة الأمنية إلى مليشيا تابعة له.

كيف يحارب سعيّد الفساد، وهو يرتكب أكبر عملية نهب في التاريخ التونسي، باختطاف الدولة، وتفكيكها، وتحويلها إلى ملكيةٍ خاصة له؟

وعلى كلّ، كيف يحارب سعيّد الفساد، وهو يرتكب أكبر عملية نهب في التاريخ التونسي، وذلك باختطاف الدولة، وتفكيكها، وتحويلها إلى ملكيةٍ خاصة له؟ كيف يحارب سارق الدولة وما فيها، من يسرق دنانير معدودة من هنا وهناك؟ وواضحٌ من صيغة دستور سعيّد الهزلي أنه يعتقد أن ما سرقه سيظل ملكه إلى الأبد، حيث أنه فصّل الدستور على سلطة الرئيس، من دون أن يتدبّر احتمال أن يأتي رئيسٌ غيره، إما بالطريقة نفسها، أي بتعيين بعض من وضعوه في السلطة من حكام الظل غيره في مكانه، أو أن ينتخب الشعب شخصاً آخر ليتولى هذه السلطات الإمبراطورية، فمن أين جاءته هذه الثقة بأنّه سيكون الرئيس القادم والأخير لتونس؟

تفكيك الدولة وتحويلها إلى ضيعةٍ خاصةٍ لرئيسٍ لا يبدو أنه يفهم الكثير عن العالم المعاصر، ولا بقادر على إفهام الناس ما يريد، ساهم في إضعاف آليات الأداء الاقتصادي، بالإضافة إلى أنه أدّى إلى هروب الأموال وإحجام المستثمرين. في الوقت نفسه، فإن الانحدار السريع نحو الدكتاتورية الهوجاء قلل من حماس المانحين، ودفع المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية إلى الزهد في دعم تونس التي تنوء اليوم بديونٍ لا قبل لها بدفع أقساطها، ما يزيد من صعوبة الحصول على قروض هي في أمسّ الحاجة إليها، ويضعها على حافّة الإفلاس. ساهم هذا الوضع أيضاً في رفع معدّل التضخم، وتخفيض سعر الدينار التونسي مقابل الدولار إلى أدنى قيمة له، ورفع نسبة البطالة.

وحتى قبل أزمة الغذاء الحالية، كانت تونس على حافّة أزمة كارثية، مسؤولية سعيّد فيها أساسية، ومنفردة، بصورة أكبر من مساهماته ومساهمات المنحازين له في السابق، وستكون مدمّرة في حق تونس.

822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي