مسؤولون غير مسؤولين
"المسؤولون ليسوا مسؤولين، والمسؤول عما جرى لكم هو أنتم أيها الجماهير". جاءت هذه الجملة على لسان الفنان المصري، محمد صبحي، في مسرحية "تخاريف"، وهو يجسّد موقف زعيم دولةٍ ما، وهو يتنصّل مع وزرائه من مسؤولياتهم عما يتعرّض له الشعب.
لم يكتف لينين الرملي، مؤلف هذه المسرحية الشهيرة التي عرضت عام 1988، بالتهرب من المسؤولية صفة ملازمة للاستبداديين من قادة العالم الثالث، فاستعرض حزمة خصائص وسلبيات تكاد تتطابق بين كل الزعماء والحكام الدكتاتوريين في العالم على مرّ العصور. ورغم عدم ذكر أي أسماء، إلا أن الإشارات الرمزية واستخدام الملابس ولغة الجسد والمحاكاة الصوتية كانت واضحة في التلميح إلى هتلر والسادات والقذافي وستالين، وغيرهم.
ومثله أيضاً فعل عادل إمام في مسرحية "الزعيم" التي بدأ عرضها عام 1993 من تأليف فاروق صبري. وجاءت أكثر مباشرةً ووضوحاً في انتقاد سلوك الزعماء الاستبداديين، حيث قدّمت أيضاً تلميحاتٍ مباشرة إلى بعض الحكام، منهم، على وجه الخصوص، معمّر القذافي، الذي كان إمام واضحاً للغاية في تقليد صوته وأسلوبه السريع في الكلام وتكرار بعض جمله الخطابية.
وفي سبتمبر/ أيلول 2009، أي قبل ثورة يناير بعام وبضعة شهور، أنتجت السينما المصرية فيلماً شديد الجرأة باسم "الدكتاتور" ألفه وأخرجه إيهاب لمعي، تناول قصة حاكم مستبد لديه ابنان توأمان، أحدهما مغرم بالهلس و"البزنس"، بينما الشغل الشاغل لشقيقه هو الانفراد بالسلطة السياسية واحتكار المصالح الاقتصادية. ورغم أن الفيلم، على خلاف مسرحيتي محمد صبحي وعادل إمام، لم يتعرّض للاستبداديين بشكل عام، وإنما اقتصر على الحالة المصرية مع ترميزها باسم افتراضي هو "دولة بامبوزيا"، ولم يُمنع الفيلم. وهو لم يتعرّض باستفاضة لسلبيات الدكتاتور، بقدر ما تناول بالتفصيل ممارسات الولدين وانعكاساتها على أحوال البلاد والعباد. ومن المفارقات أن في الفيلم ثورة نشبت وأطاحت الحاكم وابنيه. لكنها سرعان ما فشلت في الخطوة الأهم "تغيير النظام"، فاستعاد رجال النظام القديم السيطرة على الحكم، بل وإعادة تنصيب الدكتاتور وابنيه.
المدهش أن الأعمال الفنية الثلاثة حدّدت سمات مشتركة بين الدكتاتوريين، سواء في التركيبة النفسية وإدراك الحاكم ذاته والعلاقة مع المحكومين. أو على المستوى العام المتعلق بالسياسات وطريقة اتخاذ القرار، فكان الانعزال عن الواقع السمة الأبرز، وكذلك التعالي الشديد والشعور بالانفصال عن الشعب الذي يكون في إدراك الحاكم غير جدير به وبعظمة حكمه. حتى أنه يكاد يتعامل مع مواطنيه كما لو كان إلهاً أو على الأقل مبعوثاً إلهياً لأولئك البشر الخطّائين. وكما تعكس هذه السمة حزمة عقدٍ نفسية مركبة، في مقدمتها جنون العظمة، فهي بدورها تنعكس في اضطراباتٍ ذهنية واختلالات سلوكية تجعل كثيراً من سياسات أولئك الحكام متسرّعة وقراراتهم ليست واقعية، بل وأحياناً غير قابلة للتنفيذ.
وبعد أن تتراكم المخاطر على الشعب، وتتكالب التهديدات على الدولة، يفاجئ أولئك الاستبداديون شعوبهم بإنكارٍ كامل لأية مسؤولية عن الأخطاء والكوارث التي تقع بسبب قراراتهم وتوجهاتهم، فالشعوب خطّاءة، أما هم فحكماء وفلاسفة لا يخطئون أبدا. ولو أن لينيين الرملي وفاروق صبري وإيهاب لمعي أعادوا كتابة أعمالهم اليوم، لما خلت من نماذج فجّة لاستبداديين معاصرين ينتمون لمدرسة المبعوثين إلهياً ذوي المعرفة المطلقة والفتوحات الربانية، كهذا الذي استغنى عن التصنيع والتشغيل والتعليم والصحة، بالقصور والجسور. وراح يلقي بالمسؤولية على الشعب، تارة بسبب الزيادة السكانية، وتارة أخرى لثقل أوزان المواطنين. وحين تُعجزه الحيل، يتهم العوامل الخارجية سواء الكوارث والأزمات أو الاستهداف من جانب "قوى الشر". ولكي يغلق باب الحساب والمساءلة نهائياً، قال لشعبه من أيام: "قبل أن يكون دخلنا 100 تريليون دولار، لا تحاسبوني".. ما معناه أنه كمسؤول غير مسؤول.