مروان البرغوثي القائد المغيّب
تعيش حركة فتح، في ذكرى انطلاقتها، أسوأ مراحلها: القيادة المتنفذة متخاذلة، ومنشغلة في صراع لضمان استمرارها في السلطة، والكوادر والتيارات التي تتمسّك بفكرة التحرّر الوطني والتحرير مهمّشة وغير منخرطة بشكل فعال في معركة النضال المصيرية لمواجهة حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني. والمفارقة أن الذكرى تأتي في وقت بِتنا نسمع قيادات في "فتح" تتنكّر للمقاومة، همُّها في العدوان الإسرائيلي على غزّة استعادة سلطتها على القطاع المنكوب، في سباق مع حركة حماس تخسُرُه يوميا، لأنَّ مصدر الشرعية هو الفكر والفعل المقاوم، وهو الذي أعطى "فتح" قوّتها، فيما يتجاهل مسؤولوها، المنشغلون بهاجس السلطة، أن استقواءهم بـ"سلطةٍ" لا سلطة لها هو ما أضعفَ "فتح" ويساهم في تدميرها. لكن "فتح" باقية رغم التدمير المستمر لنهجها، باقيةٌ بفضل المناضلين والأسرى، وفي مقدَّمِهم القائد مروان البرغوثي، وتيارٌ تحرريٌّ داخلَها أنتج كوادر غير ملتزمة بمنطق التعايش مع الاحتلال، انبثقت منها نواة، أو على الأقل، رفدت المجموعات المقاوِمة مثل "عرين الأسود" و"كتيبة جنين" وغيرها بمناضلين، فالشهداء رعد أبو حازم وإبراهيم النابلسي وعديّ التميمي جاءوا من حاضنة "فتح" التي تمرّدت، بصمت، على قيادتها.
"فتح" التحرّر باقية، وإن كانت مهدّدةً بالاضمحلال؛ فالقيادة العليا تكبح تحرّكَها وتهمِّشُها، وهي تخشى ظهور قائد، أو قيادة، يعيد إلى الحركة دورَها، فليس سرّاً أنّ هناك إهمالاً لقضية الأسير القيادي مروان البرغوثي، لأن أيّ رأي مخالف يهدّد تركيبةً اعتادت التعايش مع الاحتلال، والأسرى هم تحدٍّ مستمر للاحتلال.
النهج الذي اختطّه مروان البرغوثي رفضَ التناحر مع حركة حماس، وسعى، ويسعى، إلى وحدة وطنية على أساس رؤية تحرّرية
يُدرك الكيان الصهيوني خطر استمرار بذور نهج تحرّري لـ"فتح"، خصوصاً أنّ النهج الذي اختطه مروان البرغوثي رفضَ التناحر مع حركة حماس، وسعى، ويسعى، إلى وحدة وطنية على أساس رؤية تحرّرية، فالحركة الأسيرة، بفصائلها كافة، كانت ولا تزال سبّاقة في العمل لتوحيد الرؤية والعمل، ولم ترتهن إلى مصالح فئوية أو سلطوية. لذا؛ ليس مستغربا أن تتّخذ إسرائيل إجراءات قاسية ضد الأسرى بعد بدء "طوفان الأقصى"، من تعذيب وإهمال طبي إلى استشهاد ستة أسرى منذ 7 أكتوبر. وليس مستغربا أنّه حين خرجت أصوات من قيادة حركة فتح بإدانة حركة حماس وتبدي استعدادا لتولي السلطة في غزّة، سحبت إسرائيل مروان البرغوثي من سجن عوفر وعزلته في مكان آخر مجهول، سعيا منها إلى "فكفكة" الحركة الأسيرة ومنعاً لتأثيره على قاعدة حركة فتح داخل المعتقلات وخارجها. إذ ممنوع أن يكون هناك صوتٌ موحّدٌ داعم للمقاومة، فالفعل المقاوم، بغض النظر عن هوية الفصيل الفلسطيني الذي يبادر إليه، عامل تثويري بحد ذاته، فكيف إذا استمرّت معركة مقاومة شجاعة نحو ثلاثة أشهر؟ إذ إن تأثير المعركة، بغض النظر عن النتائج، قد يوسّع قاعدة "حماس"، وهو الأرجح، لكنه أيضا يثوِّر قواعد أخرى، وحتى كوادر فتح التي تعمل في السلطة، وأي تقويض لنفوذ القيادة الحالية يوجه الأنظار إلى قيادة بديلة، وهنا يأتي خطر مروان البرغوثي.
أزمة "فتح" لا يحلها وجود قائد لها، وإن من المهم أن يكون هناك قائد بمكانة البرغوثي، ولذا تجري معاقبته، فالخلل عميق
ردود الفعل الغاضبة من تصريحات القيادي الفتحاوي أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ، الذي توعّد بمحاسبة حركة حماس على بدئها معركةٍ استغلتها إسرائيل لشن حملة تطهير عرقي غير مسبوقة ضد الشعب الفلسطيني، لم تصدُر من خارج حركة فتح، بل من داخلها أيضا، والاستياء حتى داخل اللجنة المركزية للحركة، ما اضطرّ الشيخ إلى محاولة التنصل من أقواله، فيما أصدرت "فتح" بيانا يؤكد دعمها المقاومة، في محاولة لاحتواء موجة الغضب التي أحدثتها التصريحات التي لم تقتصر على الشيخ فقط، وهي تعكس أزمة "فتح"؛ فمن ناحية لا يمكن أن تبرّر قيادة الحركة تقصيرها، ومن ناحية أخرى لا تسمح بأي عمل، ولو رمزي، للمقاومة أو دعم هبّة شعبية في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
من هنا يتميز دور مروان البرغوثي، فدوره لا يهدّد إسرائيل فقط، بل كل الطامحين للسلطة والرئاسة، ففي الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الحالي، عشية ذكرى الانتفاضة الأولى، دعا من معتقله إلى هبّة شعبية وطالب كوادر أجهزة الأمن الفلسطيني بحماية الشعب الفلسطيني من هجمات الجيش والمستوطنين الإسرائيليين، وهو موقفٌ يتناقض مع قيادة الحركة والسلطة الفلسطينية.
أزمة حركة فتح لا يحلها وجود قائد لها، وإن من المهم أن يكون هناك قائد بمكانة البرغوثي، ولذا تجرى معاقبته، فالخلل عميق، والقيادة منشغلة بكيف تضمن دورها بعد الحرب، ضمن تسويةٍ أو اتفاقٍ لا يجعلها متّهمة بالعودة فوق دبابة إسرائيلية. ولكن الخيار الآخر الموجود أن تعود تحت رعاية أميركية بعد تقليص دورها إلى إدارة محلية تدير معسكرات الاعتقال تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، فتصريحات الشيخ، حتى وإن حاول التراجع عنها، بدت كأنها محاولة تقديم أوراق اعتماد لواشنطن لإدارة غزّة بعد الحرب، فيما سارع القيادي الفتحاوي جبريل الرجوب بالتمايز عن الشيخ بالإعلان أن أي صيغة مستقبلية لإدارة غزّة يجب أن تحظى بتوافق وطني فلسطيني.
حركة حماس ليست فوق النقد، ويحقّ للشعب الفلسطيني مراجعتها وتقييمها، وعلى "حماس" أن تُجري إعادة تقييم بعد انتهاء المعركة
وهنا يجب التوضيح أن حركة حماس ليست فوق النقد، ويحقّ للشعب الفلسطيني مراجعتها وتقييمها، وعلى "حماس" أن تُجري إعادة تقييم بعد انتهاء المعركة. لكن السلطة، بتركيبتها، ليست مؤهلة لمحاسبة أحد، بل المفترض محاسبتها على الكثير، ويجب أن تُدرك أن مجرّد دخولها في نقاش عن ترتيبات إدارة غزّة بعد العدوان إهانة لكل شهداء منظمة التحرير التي أصبح حسين الشيخ يتحدّث باسمها.
التقطت "حماس" اللحظة، وأصرّت على إدراج اسم مروان البرغوثي وإبقائه حاضرا، بالإضافة إلى عبد الله البرغوثي (حماس)، وأحمد سعدات (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) في صدارة قائمة الأسرى الذين تطالب بتحريرهم، وبذلك تقدّم نفسها بديلا يقود الوحدة الوطنية، سواء كان ذلك تكتيكا أو استراتيجية، فإن إطلاق سراح هؤلاء، وبخاصة مروان البرغوثي، سيمثل نصرا فلسطينيا وليس حمساويا.
بقي البرغوثي في الأسر أو تم تحريره، يبقى نموذجا، مناضلا تحرّريا، وهو ليس الوحيد، بل ستبزغ قيادة تحرّرية تكمل مشوار حركة فتح، والأهم: حركة تحرّر وطني جامعة. والآن هو الوقت، فلا يمكن أن يرتقي هذا العدد الهائل من الشهداء من دون صحوة وهزّةٍ تعيد بناء حركة المقاومة الفلسطينية، وتُبقي جذوتها متقدة، وتُراكِم على ما أُنجِز، وإلا فجميعُنا مُدانون.