مرسي والسعودية: لم يعرف الانحناء أمام الأرز
دعك من أن كلام السفير السعودي السابق في القاهرة، أحمد قطّان، عن إبلاغه رسميًا بفوز الجنرال أحمد شفيق بالانتخابات الرئاسية في مصر صيف 2012، هو من محض اجترار لبضاعة رخيصة، دار بها مصطفى بكري، مثل بائع جائل من دون أن يتعاطى معه أحد بجدّية.
دعك أيضًا من أن السفير قطّان، وهو يحكي في حواره المتلفز، بدا وكأنه كان بمثابة المندوب السامي على قاهرة العسكريين بعد ثورة يناير 2011، وكيف كان الرجل الأول في المؤسسة العسكرية يهبط بها إلى مستوى التودّد للسفارة السعودية، لكي تزيد عدد تأشيرات الحج المجانية الممنوحة للجيش.
ولا تتوقف كثيرًا عند سرده قصة جزيرتي تيران وصنافير، وكيف تنازل عبد الفتاح السيسي عنهما في لمح البصر، وكأنه يملأ صحن طعامه في بوفيه مفتوح، أو أن السيسي أصر على دعوة والدة السفير إلى مقر رئاسة الجمهورية، على هامش منح وشاح النيل لقطّان، مكافأة وامتنانًا لها على أنها رفعت يديها إلى السماء، ودعت له بقضاء مصلحة .. دعك من أن هذا الموقف وحده يعبّر عن الحضيض الذي تدنّى إليه مستوى رئاسة مصر، وقد يكون المقصود من السردية إظهار تفاني السيسي في خدمة المملكة.
ضع ذلك كله جانبًا، وتأمل فيما قاله سفير السعودية عن الرئيس المصري الذي لم تحبه السعودية، ولم تشعر بالارتياح له، كما قال، فساهمت في تمويل ودعم الانقلاب عليه، ثم فتحت خزائنها لمكافأة المنقلبين عليه.
قال السفير، في الحوار المثير قبل يومين، إنه بعد سقوط حسني مبارك وتولي المجلس العسكري برئاسة المشير حسين طنطاوي السلطة، زار وزير الخارجية السعودي في ذلك الوقت، سعود الفيصل، المشير، على رأس وفد ضم السفير مقدّمًا ما يقرب من أربعة مليارات دولار منحًة للسلطة الجديدة الحاكمة في مصر.
اترك هذه اللحظة، واذهب معي خلف اعترافات وشهادات السفير السعودي صاحب الدور الكبير في دعم الثورة المضادة، والانقلاب على الرئيس المنتخب، وتوقف معي عند إفادته عن لقاءاته مع الشهيد محمد مرسي.
يقول السفير إنه ذهب للقاء الدكتور محمد مرسي، بصفته مرشحًا للرئاسة في انتخابات 2012، فيؤكد على أن المرشح مرسي لم يطلب من السعودية أي دعم على الإطلاق، ولم يقدم للسعوديين أي وعود. ولن أدعوك إلى المقارنة بين هذا الموقف وقصة الخمسة ملايين دولار التي قدمتها الرياض في الفترة ذاتها للمرشح عمرو موسى، والتي برّرها بأنها مكافأة نهاية خدمة على عمله أمينًا عامًا لجامعة الدول العربية وهو التبرير الذي لم يقنع أحدًا.
يمضي قطّان في السرد، فيتحدث بإسهاب عن زياراته الكثيرة الدكتور مرسي بعد أن صار رئيسًا، حيث "صارت بيننا علاقة طيبة"، على حد تعبير السفير الذي يقول إن اللقاء الأول امتد نحو الساعتين، حيث قال له "يا سيادة الرئيس، ترى المملكة دعمت مصر بحوالي أربعة مليارات دولار، ولا يزال عندي منها 2.9 مليار لم تستخدمها مصر حتى الآن". ينظر السفير القطان إلى المذيع الذي يحاوره، ويقول متعجبًا: هل تتخيّل أن فترة السنة التي حكم فيها مرسي انتهت ولم يقتربوا من هذا المبلغ على الإطلاق؟.
ثم يكمل الحكاية: بعد خلعه، كنت في لقاء مع (الدكتورة لميس الحديدي وتطرقت إلى هذه النقطة فاطلعت للكاميرا على الفور وقالت له يا دكتور حازم (تقصد حازم الببلاوي) السفير السعودي بيبلغك إن فيه فلوس كتير في الخزنة، وبعدها خلص الببلاوي على هذه الفلوس في لحظات".
نعم، نتخيّل، يا سعادة السفير، لم يمد يده على هذا المبلغ الضخم، لكن هل تعرف لماذا لم يفعل؟ لأنه، ببساطة كان يحترم نفسه ويحترم شعبه الذي انتخبه، ويحترم المنصب الذي وضعه الناس فيه.. لأنه كان عفيفًا لا يطلب تأشيرات حج، ولا يرهن قرار مصر السياسي لمن يدفع ومن يمنح ومن يمنع.
نعلم أيضًا أنه رفض المساومة، كما حصل في قصة عرفتها في وقتها، وتحدثت عنها سابقًا وأعيدها عليك: في واقعةٍ سمعت تفاصيلها بنفسي، من مصادر موثوق بها في ذلك الوقت، حدث أن العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز طلب من الرئيس مرسي، حين زار المملكة بعد انتخابه، أن يعفو عن مبارك عفوا رئاسيا، على أن يغادر إلى السعودية لاستضافته كونه كبر في السن.. ويضمن الملك ألا يتكلم مبارك ولا يظهر في الإعلام، ومقابل ذلك يمنح العاهل السعودي دعمًا مفتوحًا، بتروليًا ودولاريًا، للوقوف بجانب مصر. وكان رد مرسي "أمر مبارك بيد الناس وليس بيدي، ولكن إن أردت رأيي فأنا واحد ممن يرونه في مكانه الصحيح في السجن .. وأنا أحترم السعودية طبعا لكن هذا شأن مصري".
بقية القصة أن الرئيس رجع من الرياض، وشكل حكومة برئاسة هشام قنديل. وبعد أيام، كان قنديل يبلغ رئيس الجمهورية إن شحنة السولار التي كانت تعطيها حكومة الملك عبد الله لمصر تأخرت 11 يوما، فرد مرسي، من دون تفكير، "مش هتيجي دبّر نفسك بالموجود".
كان ذلك بعد أن بانت خيوط مؤامرة محاصرة الرجل حتى إسقاطه بالانقلاب عليه، وبعد أن انخرطت السعودية في مشروع الانتقام من الثورة التي أسقطت مبارك، ثم حاصر بعض المشاركين فيها السفارة السعودية، حتى غادر قطّان إلى بلاده، ذات يوم، تمامًا كما حاصروا سفارة العدو الصهيوني، وأنزلوا علمه، وأحرقوه وطردوا السفير.