مرحبا علمانيّة
عشيّة احتفال فرنسا بذكرى إقرار قانون فصل الكنيسة عن الدولة في التاسع من شهر ديسمبر/ كانون الأول 1905، والذي وضع أسس العلمانيّة الفرنسية، محدّدًا مفاهيمها، احتفلت الطائفة اليهودية في فرنسا بعيد "الحانوكا" الذي صادف هذا العام في السادس من الشهر نفسه. وحيث إن من الطبيعي للغاية أن تحتفل كل الأديان وكل الطوائف بأعيادها الدينية كيفما شاءت، في ظل هذا القانون الذي يرفع يد الكنيسة عن الدولة، كما يمنع تدخّل الدولة في شؤون الكنيسة الداخلية، فما الغريب إذًا في تقاطع التاريخين؟
يبدو أن هناك تفصيلاً مهماً قد يُثير الاستغراب في ما يتعلق باحتفال اليهود الفرنسيين، وعددهم قرابة سبعمائة ألف، هذه السنة تحديدًا، بعيد "الأنوار"، فقد أُوقِدَت الشموع إيذانًا ببدء طقوس هذا العيد التي تستمرّ ثمانية أيام، ملؤها الفرح، في قصر الإليزيه الرئاسي، وبحضور رأس الدولة، الرئيس إيمانويل ماكرون. ويُعتبر هذا التصرّف خرقًا موصوفًا لقانون فصل الدين عن الدولة الذي ما فتئت الأجهزة الرسمية في فرنسا تشدد عليه وتذكّر به في كل شاردة وواردة، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بمسلمي بلاد الغال، وعددهم قرابة سبعة ملايين نسمة.
لقد أثارت هذه الخطوة، الرمزية بامتياز، حفيظة أصدقاء الرئيس ماكرون، واحتج عليها صراحة معارضوه. واعتبرت قيادات حزب فرنسا الأبية، اليساري، أن ما حصل "خطأ سياسي لا تسامح أمامه". وقد أضاف آخرون أن ماكرون قد انتهك علمانية الدولة الفرنسية ورمى بها أرضًا. "فرئيس جمهورية علمانية لا يمكنه فعل ذلك، وهذا ما التزمه أسلافه". ويتساءل المهاجمون عمّا إذا كان الرئيس سيُكرّر التجربة مع بقية الأديان الموجودة على الأراضي الفرنسية في مناسباتها "محتفلاً في قصر الإليزيه؟ بعضها نعم وغيرها لا؟ هذه دوّامة خطيرة". فقصر الرئاسة، كما البلديات، لا يمكن لها أن تكون مجالًا مفتوحًا لممارسة الطقوس الدينية. كذلك فإن رئيس الجمهورية هو الضامن الأول للفصل بين الدين والدولة.
خرقٌ موصوف لقانون فصل الدين عن الدولة الذي تشدّد الأجهزة الرسمية في فرنسا عليه
علّق الناطق باسم حزب التجمع الفرنسي، اليميني المتطرّف، الذي لطالما يستخدم مفهوم العلمانية لمهاجمة الإسلام حصرًا، على احتفالية الإليزيه، معتبرًا أن الرئيس يشتري براءته من الانتقادات التي وُجهت له إثر غيابه عن مسيرة الاحتجاج التي جمعت كل السياسيين يوم 12 أكتوبر/ تشرين الأول تحت مسمّى "مكافحة معاداة السامية". وهي، كما أشار كثيرون ممن شارك فيها، كانت مسيرة تضامنية مع إسرائيل. وتطبيقًا للمثل "رضينا بالهمّ ولم يرض الهمّ بنا"، وإكمالاً للانتقادات التي انهالت على هذا التصرّف، عبّر يوناتان عارفي، وهو رئيس مجلس المنظمات اليهودية في فرنسا والمقرّب من اليمين الليكودي الإسرائيلي، عن استغرابه لإقامة هذه الاحتفالية في قصر الرئاسة الذي ليس هو "المكان المناسب لإشعال شمعة عيد الأنوار، لأن في ذلك انتهاكاً لمبدأ علمانية الدولة".
وقد حاول وزير الداخلية والأديان، جيرار دارمانان، نفي وقوع هذا الاحتفال في قصر الرئاسة في حديثٍ إذاعيٍ غداة حصوله، لكنه سرعان ما شعر بالإحراج الشديد لنفيه ما أكّدته وكالات الأنباء بالصوت وبالصورة، وبدأ بالتبرير، معتبرًا أن "من الطبيعي أن يستقبل الرئيس، كما سواه من السياسيين المُنتَخَبين، ممثلين عن الأديان". ولا يجد هذا التصريح المتناقض وسيلة مقنعة لتبرير الأمر، فلم يكن الاحتفال مجرّد استقبال لحاخام الطائفة اليهودية الفرنسية حاييم كورسيا والتباحث معه في شؤون الرعية وفي حالة الطقس. وإمعانًا في التبرير، أضاف الوزير أن هذا الاحتفال استثنائي، لأنه يجري "في حين يتعرّض مواطنونا اليهود لعمليات معادية للسامية". وقد شاركته رئيسة الوزراء اليزابيت بورن التبرير، بأنه يقع بعد تعرّض اليهود/ الإسرائيليين لمجازر بشعة في 7 أكتوبر. وقد برّر بعض المستشارين الأمر بأن المناسبة كانت لتقديم جائزة "محاربة معاداة السامية والحفاظ على الحرّيات الدينية" السنوية التي يمنحها مجلس الحاخامات الأوروبيين باسم لورد جاكوبوفيتش، وبأن الاحتفالية التي تلت مراسم التقديم لم ترد في البرنامج، وكأنها كانت مفاجأة للرئيس ولمعاونيه، ولم يرغب في إحراج ضيوفه والامتناع عن المشاركة. أما المعني المباشر بهذا الحدث، أي الرئيس نفسه، فقد أبدى ضعف اهتمامه بهذا الجدل، مشيرًا إلى تمسّكه بالعلمانية، ومذكّرًا بحديث له سنة 2020 حينما ندّد بمنع بعض الأطعمة في المدارس، التي لا يأكلها المسلمون، كذلك ندّد حينها بسماح بعض البلديات بأيام، خصوصاً للسيدات في المسابح العامة، واعتبر ذلك مؤشّرًا على احترامه الشديد مبدأ علمانية الدولة.
بداية ولايته الأولى سنة 2017، أبّن ماكرون المغني جوني هوليداي خارج الكنيسة التي أقيمت فيها جنازته، لأنه شارك كرئيس للجمهورية، فتعشّم العلمانيون خيرًا. أما احتفالية الأنوار الأخيرة في الإليزيه، فتثير التساؤلات المشروعة بشأن ازدواجية المعايير. وينفع التذكير بأنه خشع أمام حائط البراق (المبكى) في القدس في يناير/ كانون الثاني سنة 2020، وهو تصرّف لم يقم به حتى رؤساء أميركا، عدا دونالد ترامب، لأن فيه اعترافاً صريحاً بضم القدس الشرقية، وهذا يتعارض مع الموقف الرسمي الفرنسي. ليقول قائل: مرحبا علمانية!