مرة أخرى: رائحة شياط في مصر
ليس دخان الحرائق وحده الذي يلفّ مصر بالضباب في هذه المرحلة، الأكثر غموضًا وارتباكًا في سنواتها العشر الأخيرة على الأقل، إذ يطغى دخان حرائق السياسة على انبعاثات ألسنة حرائق الكنائس والمباني.
لا أحد يستطيع الوقوف على الأسباب الحقيقية وراء عملية شلح محافظ البنك المركزي طارق عامر من منصبه، والمجيء برئيس الشركة المهيمنة على سوق الدراما المصرية بدلًا منه، وسط زفّة إعلامية صاخبة ومضحكة عن الصياد الداهية الذي سيأتي بالدولار من ذيله، ويطرحه أرضًا خاضعًا ذليلًا أمام ضربات العملة المحلية.
الكلام المتصاعد عن مخالفات ووقائع فساد مرصودة من الأجهزة الرقابية وراء قرار عبد الفتاح السيسي بإدخال طارق عامر محرقة المستشارين الرئاسيين، تقابله، على الناحية الأخرى، ألسنة دخان على ارتفاعات أعلى، تنبعث من الحديث عن وقائع فساد أكبر في تاريخ المحافظ الجديد للبنك المركزي، حسن عبد الله.
الكلام عن مخالفات بالمليارات لمحافظ البنك المركزي الجديد، لم يسكته الكلام الأكثر صخبًا عن فساد ملياري للمحافظ المشلوح وزوجته، الوزيرة السابقة التي أقيلت سريعًا، الأمر الذي يعكس جوهر الأزمة، وهو أن تروس ماكينة النظام الحاكم تصطكّ ببعضها وتأكل بعضها بعضًا، معبرة عن حالة الطقس السياسي الملبّد بغيوم صراعات النفوذ بين دوائر السلطة وأجهزتها الأمنية.
ليس بعيدًا عن ذلك، بل في القلب منه، ذلك القصف العنيف المتبادَل في ساحة التسريبات المصوّرة التي تغذّي بها الدوائر المتصارعة منافذ التوزيع والترويج في الخارج، فأمام كل فيديو يدين ذلك الجهاز، هناك فيديو مضادٌّ بأدلة إدانة للجهاز الآخر من المتصارعين. ثم بموازاة ذلك كله يجري استعمال آلية الرسائل السياسية العنيفة، المعبأة في صورة مقالات، مثل الذي فاجأ به عماد الدين أديب الجميع، وقرأه الناس على أنه قصف عنيف مصدره أطراف إقليمية، يعبّر عنها الكاتب الذي يكتب ما يُملَى ويُسكَب عليه من جهات معلومة للكافة، أو من خلال صرخات ملتاعة تنطلق من برامج المساء، تتنوّع حدّتها بحسب تبعية المحطة أو المذيع.
في غضون ذلك، تأتي التسريبات عن خلافاتٍ عميقة، ومحتدمة، تصل إلى مرحلة الضرب تحت الحزام، بين الدوائر المعنية بملفاتٍ ملتهبة، مثل موضوع إزالة الاحتقان السياسي الذي يهدّد بخنق المرحلة كلها، سواء في تسريبات مشاريع المصالحة المطروحة داخليًا وخارجيًا، أو في قضية المعتقلين، المدرجة على مائدة حوار وطني يخفُت الحديث عنه، تعبيرًا عن تراجعه في جدول أولويات السلطة، شيئًا فشيئًا.
تذكّر هذه اللحظة بضباب العام 2010، وهو العام الأخير لسلطة حسني مبارك، والذي رسمت فيه صورة للبلاد وقتها، قلت من خلالها إن هذه لحظة نادرة في تاريخ مصر، تبدو فيها أكبر دولة في المنطقة أشبه بموقف سيارات عشوائي، لا أحد يعرف إلى أين ذاهبون، ولا متى ولا كم سيكون ثمن الانتقال، وفي وسط الزحام يجد بعض الصبية من منادي السيارات فرصتهم في الاسترزاق من هذا الأسطى أو ذاك .. سياراتٌ كثيرة غير مرخصة وبلا مشروعية حقيقية، وبعضها متهالك، ربما يصلح بالكاد لنقل قطيع من الغنم إلى المذبح، وليس شعبا عريقا تعصف به الحيرة والتساؤلات عن المصير.
ثمّة فوارق أساسية بالطبع بين طبيعة المناخ السياسي قبل أكثر من 12 عامًا وبين طبيعته الآن، إذ لا يمكنك القول إنه توجد الآن حالة سياسية، بالمعنى الحقيقي لها في مصر، حيث لا حياة حزبية، أو حتى برلمانية فعلية. وعلى الرغم من اللافتات المتزاحمة هنا وهناك، إلا أن هذه الأجسام السياسية هي للموات أقرب، أو أنها مجرد هياكل وقطع ديكور صمّاء.
في العام 2010 كانت أجواء تفاعلات سياسية، وبرغم عدم قدرة هذه التفاعلات على فرض بديل يمكن أن يقنع الناس، إلا أنها، في النهاية، كانت تعبّر عن حيوية سياسية متعدّدة الأصوات، فكان الإخوان المسلمون يحذّرون من انفجار مصر، وكأنها مثل أنبوبة، لكنها أنبوبة فارغة، فرغت بفعل فاعل، وكانت جمعيات جديدة تتشكّل كل يوم، لتنشقّ فى اليوم التالي عن جمعيات مضادّة، وقد كان ذلك، كما رصدته، تعبيرًا عن حديث الحراك الذي يجري على كل الألسنة، حتى لو لم تنتظم ملامح حركة منتظمة تشى بشكل مستقبل مصر.
ذلك كله، انتظم في شكل تيار عفوي، كفر بالسلطة كما كفر بأحزاب المعارضة التقليدية، وقرّر أن يذهب إلى التغيير بنفسه، ويفرض نفسه على جميع هياكل المعارضة التي تسابقت على الالتحاق به، وادّعاء صلة قربى تربطها بهذا الشلال الغاضب.
أما الآن، فملامح الصورة مختلفة تمامًا، إذ ماتت المعارضة بمفهومها التقليدي وتحللت، كما حبس شلال الغضب الشعبي نفسه تحت جلده بفعل سياط الخوف والفزع، لكن رائحة الشياط السياسي تبقى واضحة ومحسوسة، ومعبّرة عن حالة احتراق ذاتي في الطوابق العليا من أبراج السلطة.