مدوّنة الأسرة المغربية: إصلاحٌ بأيّ اتجاه؟
لا تزال آثار الزلزال المدمّر الذي ضرب المغرب باقيةً في مدارك المغاربة وعقولهم ووجدانهم، ولا يزال البلد يقاوم للتعافي وتدارك ما يمكن تداركه، والتفكير في طرق إصلاح وإعادة إعمار المناطق المنكوبة. ولهذا، فالتفكير في مدوّنة الأسرة (قانون) في لحظة كهذه قد يُفقد المغاربة التركيز الجاد على ملف الزلزال وكل مقتضيات الإعمار والتنمية الخاصة بالعالم القروي المنكوب، كما أن حساسية ملفّ المدوّنة وتأثيراته الخطيرة على مستقبل الأسر المغربية، تستدعي مناخا أكثر هدوءا، وترتيباتٍ مؤسّساتيةً قبْلية، فهل سيضرّ هذا التزاحم بأي من الملفين الحسّاسيْن، ويضعنا أمام أزمة تضارب المصالح، ذلك ما ستُبديه الأيام؟
يشهد المجتمع المغربي تحوّلات قيمية عدّة، آخذة في التطوّر يوما بعد آخر، كما أن درجة التباعد والحدّة بين الأجيال اليوم صارت، هي الأخرى، أبعد ما تكون عن الامتداد والتقارب، وممثلة، في المقابل، لتحوّلاتٍ جذريةٍ مقلقة، تطاول مختلف الفئات الاجتماعية والعُمرية والمجالية. لهذا، ينبغي أن تتكيّف إعادة النظر في وضعية الأسرة المغربية، دائما، بما يتوافق وتحوّلات المجتمع سلبا أو إيجابا، ومنه نفهم لماذا تناول الملك محمد السادس في خطاب العرش 2022 وضعية الأسرة بالدعوة إلى جبْر كل الاختلالات التي عرفتها عملية تنزيل بنود مدوّنة الأسرة المغربية منذ تفعليها في 2004، وفي رسالة يوم 26 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) أعطى الملك الضوء الأخضر لرئيس الحكومة قصد إعادة النظر في هذه المدوّنة وفي أجل أقصاه ستة أشهر.
لفهم بعض من الأسباب الدافعة إلى التفكير في إعادة النظر في مدوّنة الأسرة في المغرب، لا بدّ من العودة إلى الأرقام المهولة التي سبق أن سجّلتها وزارة العدل والفاعلون المدنيون، حيث بلغت في سابقةٍ من نوعها نسب الطلاق حدود 300 ألف حالة (بمعدّل 800 حالة طلاق يوميا)، حالات غلب عليها الطلاق الاتفاقي حسب الأحكام المسجّلة دائما عن وزارة العدل. إلى جانب ذلك الاختلالات التي رافقت بعض البنود، وخصوصا المتعلقة بتزويج من هنّ دون سن 18، وغير ذلك من الخروق التنزيلية التي تجمع بين الاختلالات القضائية المؤسّساتية والأخرى الثقافية الاجتماعية.
دائرة التغيير كما هو واضح ستنحصر في الإصلاحات التقنية المرتبطة بمشكلات التنزيل المستفحلة
وإذا ما أضفنا إلى هذه الأعداد مؤشّرات الثقة المتعلقة بالأسر المغربية الصادرة هي الأخرى عن المندوبية نفسها برسم موسم 2021، حيث تحسّ غالبية الأسر المغربية بتراجع مستواها المعيشي وتدهور وضعيتها المالية، إلى جانب إحساسها بتدهور الوضعية الحقوقية في البلاد وتدهور خدمات التعليم، ورغم تسجيل الإحساس بتحسن المحافظة على البيئة وخدمات الصحة نسبيا، فإن هذه المؤشّرات المتدنّية تعكس، هي الأخرى، التعقيد والصعوبة التي تعيشها هذه الأسر، والتي لا يمكن للمدوّنة وحدها أن تحلّها، بينما يمكنها أن تعبّر عن تفاقم هذه المشكلات وتعقيدها.
منذ خطاب العرش، أخيرا، انبرى فاعلون كثيرون، حزبيون وغيرهم، للتسابق بشأن إبداء ما يريدونه من المدوّنة الجديدة، لأنهم يعون أن إصلاح المدوّنة هو دوما فرصة للظهور ممثلا للتوجّه الذي يرتضونه، وإن كانوا لا يتذكّرونها إلا في مواقف موسمية كهذه، ومن دون أن تردنا منهم تقارير ودراسات بحثية جادّة حول تحولات المجتمع المغربي. لكن السؤال هو ما إذا كان المغاربة يحتاجون مدوّنة جديدة، أم أنها تحتاج إصلاحات فرعية مرتبطة ببنودٍ ظهرت آثارها السلبية، والتي يمكن تعديلها من دون أن تتّخذ كل هذه الصبغة التهييجيّة للمجتمع.
يعلم الجميع أن حساسية ملفّ مدوّنة الأسرة مرتبطة، أولا، بالجانب الديني، فهي المجال التشريعي الوحيد الذي لا يزال صامدا أمام تغيّرات المجتمع الحداثية، والذي، رغم كل المحاولات التحديثية (!)، لا يزال صامدا، نظرا إلى أن الأحكام التشريعية التي بقيت هي من التي يظل مجال التأويل فيها ضيقا، مهما كان اجتهاديا أو تنويريا كما يحلو لبعضهم تسميته. ورغم أن خطاب العرش قد تطرّق لمصطلحاتٍ من قبيل المقاصد والاجتهاد المنفتح باعتباره أميرا للمؤمنين، إلا إن دائرة التغيير كما هو واضح ستنحصر في الإصلاحات التقنية المرتبطة بمشكلات التنزيل المستفحلة، والتي لا تنفصل عن مشكلات المؤسّسات القضائية التي يعلم الجميع في المغرب مدى هشاشتها.
كانت نسبة حالات الزواج قبل سن 15 في 2004 هي 2,5% وانخفضت في 2018 إلى 0,5%
ورغم ذلك كله، حين نتأمل الإحصائيات الخاصة مثلا بنسبة التعدّد فإنها لا تظهر أي تغيّر يُذكر، بل نجده لم يتناقص عما كان عليه قبل المدونة، بل زاد، وإن بنسبٍ طفيفة، حيث سُجلت 991 حالة في 2010، و1046 في 2021. أما بالنسبة لحالات الزواج قبل سن 15 فقد سُجل تحسّن ملموس، حيث كانت النسبة في 2004 هي 2,5% وانخفضت في 2018 إلى 0,5%. أما تزويج الراشدات أنفسهن فسجلت النسبة ارتفاعا من 65 ألفا في 2010 إلى 71 ألفا في 2021. وهذه كلها أرقام تعكس تحوّلات جوهرية تمسّ وعي المجتمع المغربي وبنيته، وتغيّرات تمسّ قاعدته التي هي الأسرة، غير أن تحميل المدوّنة الدور في التخفيف من حدّة زواج القاصرات أو التشجيع على تزويج الراشدات أنفسهن فيه بعض من المبالغة، من دون أن ننفي أهمية الوثيقة القانونية في التشجيع على ذلك.
أما ما نرغب أخيرا في تسجيله على المتعاملين مع المدوّنة كأنها بوّابة العالم الجديد، أنه ينبغي النظر إلى العامل الديني الطفيف الذي لا يزال يحضُر فيها نظرة إيجابية، فإضعافه، حسب تقرير صدر في مجلة The Economist، بتاريخ 15 سبتمبر/ أيلول 2022، لعب دورا كبيرا في دفع المجتمعات إلى الاستهانة بقداسة الأسرة ورابطتها الروحية والجرأة أكثر على الطلاق، إلى جانب إضعاف دور الفاعل الديني داخل نسيج المجتمع وتغيّر أدواره. وهو ما جعل كثيرين ربما يقبلون على الطلاق بشكل اتفاقي ينم عن استغناء تام عن كل قيم الصبر والتضامن والمودّة والرحمة، وغيرها من أسسٍ ينبغي التمسّك بها كما يتمسّك الجميع بالاجتهاد والمقاصد والتنوير وغيرها، إلى جانب تغيّرات وضعية المرأة داخل المجتمع، اقتصاديا واجتماعيا، الأمر الذي يعيدنا إلى نقطة مهمّة، أننا أمام تحدٍّ ليس بالسهل، يجعلنا نفكّر عند كل محاولة إصلاح أو تغيير في هدف مقاصدي كبير: كيف يمكننا أن نحمي الأسرة من كل هذه التغيّرات الجارفة. وإلا للمجتمع المغلوب على أمره كامل الحق في الدفاع عن تديّنه وأسرته بالطرق التي له كامل الحق أيضا في إبداعها رغم محدوديتها، سواء على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي أو غيرها من الوسائل الأخرى.