مدد يا حسين ... يا جمال مبارك
لافتٌ احتفال النخب المصرية بذكرى عاشوراء هذا العام. يحب المصريون آل البيت، مفهوم، نحبّهم ونزورهم وبعضنا يتبّرك، بل ويُقسم بحيواتهم، إلا أن نداءاتٍ ذات طابع طقوسي، ظهرت، هذا الأسبوع، على مواقع التواصل، تتجاوز دفء المشاعر المصرية في حبّ آل البيت، إلى درجات حرارةٍ أكثر اشتعالا. تغيّرات في المناخ "الرثائي"، مردّها حالة الاحتباس السياسي، القاتلة، لا سيما لدى "رهائن الداخل" من المصريين، ينادي نشطاء المجتمع المدني على حساباتهم الشخصية "يا حسين"، ولسان الحال يقول كما قال الشاعر مصطفى إبراهيم "إني رأيت اليوم/ الدم ع الآيش/ وإن الحسين احنا/ مهما اتقتل عايش" ... خطاباتٌ ظاهرها الحنين وباطنها التورّط، تستدعي الحسين الثائر، والحسين الذبيح، والحسين القيمة، والحسين اللعنة الأبدية على كل قاتلٍ، معالجاتٌ (بعضها لا إرادي) في صورة تدويناتٍ وتغريداتٍ وتعليقاتٍ عن يزيد لا دخل لها بيزيد، يتجاوز أصحابًها ملعون التاريخ إلى ملاعين الواقع. رسائل واضحة على احتيالها، حقيقيّة على مجازاتها، وكاشفة.
قد يبدو غير لائق، ووقحا، أن نقرن بين اسم الحسين بن علي رضي الله عنهما، وجمال ابن حسني مبارك، وهذان (جمال ووالده) لصّان، بحكم محكمة وشهادة ملايين، لكن واقعا يفرض نفسه، في مصر الآن، ويخبرنا أن المصريين على استعداد للاستنجاد بالشيطان نفسه، لإنقاذهم مما هم فيه، فـ "يا حسين" النخبوية ترادفها في شوارع مصر "يا مبارك"، ويا أيام مبارك، ويا أبناء مبارك. لم يكن علاء وجمال مبارك يتخيّلان مشيهما في شوارع مصر، من دون حراسة، في فترة حكم أبيهما، كانا يعرفان جيدا حجم كراهية المصريين لهما. والآن، وبعد ثورة شعبية، أحد أهم أسبابها عرقلة مشروع توريث السلطة إلى جمال مبارك، يتسكع الاثنان، في شوارع مصر، يجلسان على مقاهيها، يلتقطان الصور الاحتفائية مع روّادها، ويستمعان إلى توسّلات الضحايا إلى جلادهم، لا بأن يكفّ، بل بأن يعود!
يُخبرك رجل الشارع العادي بأن لصّا فاهما أقلّ ضررا من واهم، يتوهّم الشرف، الأمانة، القوة، الله يكلّمه، مصر تكلّمه، مهووس في يده سلاح، آلاف القتلى والمصابين والمخفيين قسريا والمشرّدين في بلاد الله، بحجّة الحفاظ على الدولة، والنتيجة لا دولة، ولا أمان، ولا عملة نصف محترمة، ولا حياة ربع آدمية، ولا شيء غير خطابات المعايرة والعجرفة: احمدوا ربنا.. وانظروا إلى الدول من حولكم"، هذا حديث الناس، اليوم، على المقاهي وفي المواصلات العامة وفي أماكن العمل، بعد أن كان الزوج يخشى مصارحة زوجته برأي سلبي في الرئيس "جلّ شأنه". تجاوزت أحوال المصريين حدود الممكن والمحتمل، ولم يعد ثمّة شيء يستحقّ الخوف منه أو عليه، إذ لم تعد أحوال طلقاء مصر تختلف كثيرا عن سجنائها، كلّنا رهائن.
ليس من المبالغة القول إن المصريين هم أكثر شعوب الأرض عاطفةً تجاه بلادهم، ورغبة صادقة، ومزمنة، في العيش بها ولها. لا نحتاج هنا إلى دليل، بل إن بعض الأحكام المتسرعة تتهم المصريين بالشوفينية جرّاء ذلك، حتى هؤلاء الذين رأوا، مبكّرا، مآلات الأحوال، فغادروا، سواء بعد هزيمة 1967، أو بعد انقلاب يوليو 2013. هم إما زائر، بصفة دورية، أو متطلّع دائم إلى العودة، حتى الذين تجاوزوا "مسألة مصر"، وحسموا ابتعادهم عنها نهائيا، لم يكن يسعهم التصريح بذلك في محيطات عائلاتهم وأقربائهم وأصدقائهم، إذ يعدّ شططا وجحودا، فماذا عن اليوم؟ هذا "يوم آخر" لا شبيه له، ولا علاج في القريب، يمكنك على سبيل المثال الطريف (والمخيف)، متابعة تعليقات المصريين على مواقع التواصل على هروب اللاعبين المميزين في الألعاب الفردية إلى دولٍ غربية، يحصلون على جنسيّتها، ويمثلونها في المحافل الدولية، تعليقات واضحة كالإهانة. المصريون يهنئون ويباركون ويشجّعون، ويتمنّون الأمر نفسه لأنفسهم ولأولادهم، لم تعد المغادرة حلا مؤقتا، أو مرحلة، صارت هدفا وطموحا وغاية، لم تعد قوارب اللجوء مجرّد فزّاعة يبتزّ السيسي حلفاءه الغربيين بها لينتزع مزيدا من الدعم، صارت إجراءً حتميا، ومسألة وقت. فـ "يا ربّ".