مدافن مفروشة للإيجار
يبقى ذلك العالم لغزا، واقتحامه جريمة. أما الفنون والجنون في طقوسه ومراسمه، وكذلك معالمه الأخيرة، فيبقى محيّرا ومثيرا لتساؤلاتٍ كثيرة، منها أنك لا تعرف سبب عناية الأحياء مثلا بمقابر الأموات، وهم يعلمون جيدا أن الأموات لا يشعرون، ومهما بلغت مكانتهم في حياتهم فقد انتهوا، ولم يعودوا قادرين على الاعتراض. لكن هناك من يهتم بمعالم الميت وبقاياه الأخيرة، وكأنه يريد أن يؤكّد أنه لم ينسَ ميته. وتبقى الحقيقة أن الحي أبقى من الميت، ومن هذا المبدأ، تخرج الممثلة المثيرة للجدل بتصريحاتها كل حين وحين، إلهام شاهين؛ لتعلن أنها لن تتردّد بالتبرع بأعضائها لإنقاذ حياة المرضى بعد موتها، لأن نهاية الجسد الفناء، فلم لا يتم الاستفادة منه قبل أن يفنى.
بناءً على تساؤل إلهام شاهين، يأتيك تساؤل مختلف، عن حرص الأحياء على رفات الموتى. وبعيدا عن الدين وتوصياته بأن للموت حرمة، وبأن كسر عظم ميت يعادل كسر العظم وهو حي، إلا أن الجزع والخوف والغضب يلفّ ذوي الميت الذي يُنبش قبره، وتقوم الدنيا ولا تقعد في حال حدوث هذه الجريمة التي ترتبط بأسبابٍ قد تبدو خياليةً، مثل أن السحرة يستعينون بأجسام الموتى لأمور السحر وإلحاق الضرر بالأحياء. وهناك خيالاتٌ أبعد من السحر، تحدّثت عنها علوم الميتافيزيقيا، مثل استنطاق أجساد الأموات، والاستفادة منها في معرفة الماضي وخفايا بعض الأمور. ويبدو أن هذه العلوم قد حاولت أن تستفيد من قصة جلد البقرة التي أوعز الله لموسى أن يضرب به جسد قتيل؛ لكي ينطق ويبوح باسم قاتله. وهكذا، فنحن ندور في عالم الغرائب حينا، وندور في عالم التساؤلات والخوف من المجهول، وليس هناك مجهول أكبر من عالم الموت، وعالم ما بعد الموت.
أخيرا، ثارت قضية اختفاء رفات طفلة لا يزيد عمرها عن ثلاثة أشهر من مقبرة في غزّة، وتعالت أصواتٌ تؤكد أن الاختفاء ليس بعيدا عن أيدي السحرة والمشعوذين، في حين أن بلادا أخرى قد تلقي التهمة على طلبة كليات الطب وعلاقتهم بحارسي المقابر ونابشي القبور. والحقيقة التي اتّضحت سريعا أن الاختفاء كان مادّيا بحتا، وهو إعادة بيع القبر للمرة الثانية، وبسعر أقل من سعر القبر الحديث البناء الذي لم يُدفن فيه أحد من قبل، ورغبة أهل متوفٍّ ما أن يدفن قريبهم في مقبرةٍ قريبة منهم، ليتسنّى لهم زيارته، مع توصيات الحكومة المشدّدة أن المقبرة قد أصبحت ممتلئة، ويمنع الدفن فيها، إلا إن ذلك لم يمنع أن تحدُث حادثةٌ اعتبرت جريمةً بحق جثة طفلة بريئة، وخرجت تصريحاتٌ لذويها تذيب القلوب، فيما كان على الجانب الآخر هناك من يستفيد مادّيا من هذه الجريمة. وهناك ذوو ميت حديث الوفاة يشعرون بزهو مبطّن لإحراز خطوة موفقة في الحصول على قبر لعزيزهم قريب منهم، يستطيعون أن يُقرِئونه الفاتحة في ذهابهم وإيابهم.
لسنا بصدد الفتاوى الدينية بالطبع، لكن المقابر، على غرابتها، تثير فيك تساؤلات ومخاوف، وتجعلك تسرح بطريقة تفكير الأحياء ونظرتهم إلى الأموات وتاريخهم على الأرض، مثل مقبرة بائعات الهوى التي تزين أسوارها الشرائط الملوّنة والريش، وكأن العالم لا يريد أن ينسى ماضيهن، ومقبرة زعماء المافيا التي أقيمت في مدينة يكاترينبورغ الروسية خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث عُرفت هذه المدينة بعاصمة الجريمة المنظّمة في روسيا، إذ احتدم فيها الصراع بين اثنتين من عصابات المافيا، ومن الطبيعي أن يُكتب على شواهدها التاريخ البطولي لهؤلاء الزعماء، مثل بطولة أحدهم في الطعن بالسكين. أما المقابر المعلقة على الجبال في الصين والفيليبين، وكذا مقابر الكلاب، فتعدّ من أكثر المقابر غرابة في العالم؛ ففي باريس تقع أشهرها، حيث دفن فيها الكلب رين تن تن، من فصيلة جيرمان شيبرد الذي شارك في 26 من الأفلام السينمائية.