مخيّم ناجي العلي
من يكترث بالفلسطينيين في هذا العالم؟ وإذا اقتتلوا فمن يتضرّر سواهم؟ وسواء كانت أحداث مخيم عين الحلوة مجرّد عمليات ثأرية وثأر، أم جزءاً من مخطّطات استخباراتية مفترضة تشارك في تنفيذها على لحم الفلسطينيين وبدمائهم عدة دول، كما تذهب بعض القراءات المتطرّفة في خيالها، فإن "البضاعة" الفلسطينية أصبحت خارج السوق فعلياً.
ثمّة من أطلق الرصاص على من يُكنّى "أبو قتادة"، قام به شخص يُكنى "الصومالي"، وانتهى الأمر بمقتل قيادي في حركة فتح، كان يسعى إلى احتواء الحريق الصغير.
لا "أبو قتادة" يعيش في زمن صعود التيارات السلفية وشقيقاتها، ولا الصومالي يعيش في زمن "كنس الإمبريالية" من مستعمراتها القديمة، ولا المخيّمات كما كانت في أعقاب هجرات الفلسطينيين الكبرى. لم تعد خزّان الدم والفداء ووعد العودة، بل مجرّد مكاره صحية لا تصلح للحياة الإنسانية. يقيم فيها عشرات الآلاف من المنسيين الذين لم يستطع قطار أوسلو الصغير إعادتهم إلى فلسطين التي اختُزلت، فإذا هي مجرّد مناطق يخطّط اليمين الإسرائيلي لتحويلها إلى جزر منفصلة، يديرها ما يشبه رؤساء البلديات. كلّ ما حدث ويحدث في عين الحلوة مقذوفٌ خارج العالم. خارج حركة التاريخ الحقيقي والمفترض للشعب الفلسطيني، والمخيّم نفسه أصبح عبئاً يتمّ التخفّف منه منذ سنوات، على أمل أن يبتلعه أي ثقبٍ أسود قد يمرّ في المنطقة.
ولكن، هنا أقام مبدع استثنائي. نشأ وهو يفتح عينين واسعتين، ويدير ظهرَه للعالم بأسره منذ أُكره على الخروج من بلاده. هنا عاش ناجي العلي مطلع صباه. في هذا المخيم لا سواه الذي يقتتل فيه أبو قتادة والصومالي، عاش العلي وابتكر شخصية حنظلة، وتركَه في العاشرة من عمره، فتمرّ السنوات والأحداث فلا يكبر، كأن كل ما يحدث خارج بلاده يجري خارج زمنه هو.
تلتقيه رضوى عاشور عام 1985 وتحاوره، فيقول لها ببساطة: أنا من مخيّم عين الحلوة. ... كأن المخيم آنذاك هو هوية الفلسطيني خارج وطنه، ولا هوية سواها، ذلك أن أبناء المخيّمات هم أبناء أرض فلسطين، إنهم من يتعرّضون للموت والمهانة والقهر. يحدُث هذا معهم لأنهم فقراء، ولأنهم فقدوا كل شيء عندما فقدوا أرضهم. وهذا ما لم يحدُث لمن وصفهم ناجي في حواره مع رضوى بكبار البورجوازيين الذين لم يضطرّوا للإقامة في المخيمات، فلم يكن المخيم هويّتهم الطبقية أو حتى الوطنية، على عُسف استنتاج كهذا.
إلى عين الحلوة، يأتي غسّان كنفاني، صاحب الرواية الأكثر تماسكاً لحيوات الفلسطينيين المعقّدة وخياراتهم الشحيحة لكن المأساوية، للمشاركة في إحدى الندوات التي كان ينظّمها نادي المخيم. وعندما يلتفت خلفه، يرى الرسوم الكاريكاتورية للفتى ناجي على الحائط، فيأخذ اثنتين أو ثلاثة منها، وينشرُها لاحقاً في مجلة الحرية. كأن ذلك اللقاء بينهما كان لقاءً بين أم سعد وحنظلة، بين مخيمٍ يرفض الهزيمة ويقاومها وبين ذلك الحرد الوجودي العظيم لذلك الطفل الذي يدير ظهره للعالم، ولا يريد أن يكبر إلا في وطنه وبين شعبه. لكن تلك المعادلة، على جذريّتها، تظلّ ساذجة، فلا المخيم ظل كذلك ولا حنظلة قادر على الصمود إلى الأبد، فثمّة الحياة نفسها، وهي قاسية، وتحوّلات القضية الفلسطينية التي طالت كثيراً وترهّلت على أيدي قادتها وتحوّلت إلى عبء ثقيل على كل من يقاربها، فإذا المخيم ينتهي إلى مكرهةٍ صحية، وأبناؤه إلى حالات إنسانية ومشاريع قتلى في حروب صغيرة بين الفلسطينيين أنفسهم أو مع غيرهم.
لك أن تقرأ الرواية الصادمة في مشاغلها، بواقعيّتها الخشنة والفجّة، لسامية عيسى "حليب التين" (دار الآداب، بيروت، 2010)، لتعرف إلى أي دركٍ وصل الفلسطينيون في مخيّماتهم. الرواية بديعة، وتدور أحداثها في "حي أوزو" الذي يقع على أطراف مخيّم عين الحلوة، وفي دبي، وتنتهي بالبحث عن أي خلاصٍ فرديٍّ خارج هذا الوحل الذي تُرك الفلسطينيون يتخبّطون فيه.
لم يكن ما حدث في عين الحلوة في الأيام الماضية صراعاً كبيراً، بل مجرّد محاولة تدوير بالغة الغباء للبضاعة الفلسطينية التي لم يبق أحد في المنطقة إلا واستغلّها لصالحه، بعيداً عن تلك الحيوات اليائسة لأصحابها الذين يعيشون ضمن شروطٍ لا تقلّ سوءا عن تلك التي تتوفّر للحيوانات نفسها في هذا المنطقة: كفى.