مخاتير غزّة ورجالها
راهنت إسرائيل على مخاتير قطاع غزّة وعشائرها فخاب مسعاها، فلجأت إلى اغتيال من تصل أيديها إليهم، خاصة الذين أعلنوا على رؤوس الأشهاد رفضهم القاطع التعاون معها، لإنفاذ خطتها لإقامة إدارة مدنية في غزّة. قالوا ذلك في تصريحات معلنة، ولجهات دولية عقدت اجتماعات معهم بمعيّة ممثلي بعض العشائر، لإقناعهم بما يُراد منهم إسرائيلياً، فردّوا هذه الجهات على أعقابها.
أين هي المفاجأة هنا؟ ليست في وطنيّة مخاتير فلسطين، وهم كذلك، بل في تكفيك التنميط الذي خضعوا له في الأدبيات السياسية والمرويات الشفوية والسرد والدراما الفلسطينية، وهو تنميط متصلّب أغفل تغيّر الوظيفة والأسباب التي أنشأتها، كما أغفل تطوّر المجتمع الفلسطيني نفسه بعد صاعقة هزيمة عام 1967 المزلزلة، التي قضت على آخر البنى الفلاحية في المجتمع الفلسطيني الذي غادر القرية إلى المخيم، داخل المدن أو على أطرافها، وحوّل سكّان المدن إلى أخلاط أصول ومرجعيات غير التي كانت قارّة قبل 1967، فتجاورت في المدن عائلاتها العريقة مع نازحين يبحثون عن مكانٍ لهم في مجتمعاتهم الجديدة، فكان أن صلّبت العائلات الكبرى من تمثيلاتها السياسية والاجتماعية للحفاظ على نفسها، بينما أحيا الوافدون الجدد مرجعياتهم العائلية التي تعرّضت لضربات قاسية بسبب الاحتلال والشتات، ومنها التشكيلات الاجتماعية التي جاؤوا منها (الحمائل) وبعض وظائفها (المختار).
على أن مختار ما بعد 1967 لا يشبه نظيره قبل الاحتلال. إنه أضعف، بوظيفة تتآكل شروطها، بصعود المقاومة الفلسطينية. وفي قطاع غزة، فإن صعود حركة حماس في تسعينيات القرن المنصرم حوّل المخاتير إلى جزءٍ من الفولكلور، ووظيفتهم إلى ما هو أقلّ من العمل البلدي.
تعود وظيفة المختار في فلسطين إلى النظام الإداري العثماني، وكان مخاتير فلسطين من رجالات الإقطاع فيها، أي أنهم كانوا يحوزون الثروة أصلاً، وأضيف إليها النفوذ بقيامهم بدور الوكيل العثماني المحلي. وهو ما واصلوه في حقبة الانتداب البريطاني، وبدأ بالتآكل مع النكبة، وتلقّى الضربة القاضية بعد احتلال بقية فلسطين، فالأرض التي كانوا يحوزونها تمّت مصادرتها أو مصادرة أجزاء كبيرة منها، والنفوذ المفترض أصبح مصدراً للشُبهات، أي العمالة لإسرائيل، وهو ما ساهم في القضاء على صورة المختار السابقة، المترسّخة في الذهن، النمطية بقوة المرويات الشفوية.
يستعرض تحقيق صحافي أنجزته آلاء أبو عيشة عام 2018 نشره موقع ألترا- فلسطين الإخباري، بعنوان "عندما وقف أهل العزّ في طابور الخبز"، ذكريات أبناء أو أحفاد عدد من مخاتير قراهم الصغيرة بعد نزوحهم إلى قطاع غزّة، حيث فقدوا الأرض والنفوذ، المكان والمكانة، ومن هؤلاء مختار قرية حمامة، وهي البلدة الأصلية لكاتب هذا المقال، فالرجل الذي وجد نفسَه يتلقّى لأول مرة في حياته مساعدات وكالة الغوث الدولية يعود إلى خيمته غاضباً وشاعراً بالذلّ، ويموت في اليوم نفسه على سجّادة الصلاة وهو يبكي من القهر.
نعثر على "المختار" في عديد من الأعمال الأدبية والدرامية الفلسطينية، من غسّان كنفاني ورشاد أبو شاور انتهاء بفيلم فرحة (2021 إخراج دارين سلام). في "أم سعد" لغسّان كنفاني، وهو من أهم روائيي السردية الفلسطينية الكبرى، والرواية تبشيرية إلى حدّ كبير، تقوم على تمجيد صعود المقاومة في مخيمات اللجوء، تكون وظيفة المختار فيها أقل من الوكيل المحلي للسلطات، أي نصح سعد بطل الرواية الذي يلتحق بالفدائيين بتوقيع تعهّدٍ بألا يفعل، والمختار بهذا وسيط أمني وليس مُخبراً أو وكيلاً.
ويقدّم وليد سيف، وهو شاعرٌ كبير اختار طريقه إلى الدراما التلفزيونية فأصبح أهم كتّابها العرب، في "التغريبة الفلسطينية" (2004)، تشريحاً بالغ الذكاء والعمق لشخصية المختار في المجتمع الفلسطيني، باعتباره جزءاً من معوّقات الانتقال إلى الثورة، لا بمعناها السياسي ضد الاحتلال، ولكن ضدّ التخلف الذي ساهم في هزيمة الفلسطينيين. كما يرصد تحوّلات الشخصية الفلسطينية نفسها التي بدأت تفكّ قيودها وتنتقل إلى الثورة بمعناها الشامل. والمختار في هذه التحوّلات هو الماضي، القوى التقليدية، بقايا الإقطاع الذي لا يُعنى إلا بمصالحه، وتنتهي وظيفتُه بصعود الفلسطيني المقاوم والمثقف. والحال هذه لا يستغربن أحدٌ رفض مخاتير غزّة الانخراط في المخطّط الإسرائيلي لاستغلالهم ضد أبناء وطنهم، فلقد انتهى ذلك الدور على عسف ما وُصف ورُويَ وعُمّم، وانتهت تلك الوظيفة.