محنة اللجوء الفلسطيني وحقّ العودة ... القانون والواقع

01 ديسمبر 2023

أعلام فلسطينية في مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين جنوب بيروت (7/11/2023/فرانس برس)

+ الخط -

تتصدّر قضية اللجوء المشهد الدولي والإنساني، وتلفت إليها الأنظار من جديد في ظلّ ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من مجازر مروّعة وسياسات ممنهجة للتجويع والتنكيل والتشريد والتهجير من أرضه، وقد أبرزت حرب 7 أكتوبر فشل كل المساعي الصهيونية الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية وإجهاض أي حركة تحرر وطني، أكدت شرعية حقوق الفلسطينيين على أرضهم المحتلة وعدالة المطالبة بتقرير المصير والظفر بالاستقلال والحرية، وقد ضمنت الأمم المتحدة في القرار عدد 194 لسنة 1948حق اللاجئ الفلسطيني في العودة في أقرب وقت ممكن إلى دياره ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقرّرون عدم العودة وعن كل مفقود ومصاب بضرر، وهو حقٌّ طال انتظار تكريسه، وتعاقبت أجيال من اللاجئين تفاقم عددهم ليبلغ أكثر من ستة ملايين، وليصبحوا من أقدم اللاجئين في العالم، ولتدوم معاناتهم.

يعيش ثلث اللاجئين الفلسطينيين المسجّلين لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في 58 مخيّما معترفا بها في الأردن ولبنان وسورية وقطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، أضف إلى ذلك المخيّمات العشرة التي أنشئت إثر حرب 1967 واحتلال إسرائيل الضفة والقطاع لإيواء الموجة الجديدة من اللاجئين. أما ثلثا اللاجئين الفلسطينيين المتبقّين فيعيشون في البلدان المضيفة وفي الضفّة الغربية وقطاع غزّة، وارتبط تعريف اللاجئ الفلسطيني ارتباطا وثيقا بطابعه المؤقّت الذي يضمن له حقّ العودة إلى أرضه، وهو حق تعهّدت المنظمة الدولية بضمانه بمقتضى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد 194 لسنة 1948، خلافا لغيره من لاجئي الحقّ العام الذين أقرّت معاهدة جنيف لسنة 1951 حقّهم في البقاء في الدول المضيفة وفي التوطين والتجنيس بها.

بروتوكول الدار البيضاء

تطغى على المخيمات عموما أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة وكثافة سكّانية مرتفعة وبنية تحتية غير ملائمة، وتتقاسم "أونروا" مع الدول المضيفة المسؤوليات إزاء اللاجئين، إذ تقتصر مهمة الوكالة الأممية في المخيمات على توفير الخدمات وعلى إدارة منشآتها. تشتمل خدماتها على التعليم والرعاية الصحية والإغاثة والبنية التحتية والدعم المجتمعي والإقراض الصغير والاستجابة الطارئة، بما في ذلك في أوقات النزاع المسلح، في حين تقع على عاتق السلطات المضيفة مهمّة حفظ الأمن داخل المخيمات، فوضع اللاجئ الفلسطيني استثنائي، تضبطه الدول المضيفة ويخضع لسلطتها التقديرية، إلا أن هذا الوضع لا يمكن أن يبرّر خضوعهم لحماية منقوصة لا تستجيب للمعايير الدولية المنطبقة على الحقّ في اللجوء، والحقوق الأساسية للاجئ كما ضمنتها اتفاقية جنيف لسنة 1951، والمتمثلة أساسا في مبدأ عدم التمييز من حيث العرق أو الدين، والحقّ في اكتساب الأموال المنقولة وغير المنقولة في الظروف نفسها الممنوحة للأجانب، وكذلك حقّ التقاضي، والحق في العمل، والحقّ في اختيار محلّ إقامتهم وحرية التنقل في أراضي الدولة المضيفة والسفر خارجها والتمتع ببطاقة هوية إن لم تكن في حوزته وثيقة سفر صالحة، وحظر طرد اللاجئ، وتسهل الدولة المضيفة قدر الإمكان اندماج وتجنيس اللاجئين داخلها، ذلك أن الحرص المعلن من الدول المضيفة على الحقّ في العودة قد يتحوّل، على أهميّته، إلى مسوّغ لشرعنة الممارسات والقوانين التمييزية بين اللاجئين الفلسطينيين ومواطني هذه الدول.

أدّى النزاع المسلح داخل سورية إلى هجرة أكثر من 30 ألف لاجئ فلسطيني منها

ولذلك، سعت جامعة الدول العربية إلى التصدّي لهشاشة وضعية اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في الدول العربية، وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وجعلها في منأى عن أهواء الحكّام والظروف السياسية والدولية الطارئة والمتقلبة، إذ تبنّى مجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء في اجتماعه في الدار البيضاء يوم 10 سبتمبر/ أيلول 1965 بروتوكولا يتضمّن الحدّ الأدنى من الحقوق المكفولة من الدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين، حيث "يعامل الفلسطينيون في الدول العربية التي يقيمون فيها معاملة رعايا الدول العربية في سفرهم وإقامتهم وتيسير فرص العمل لهم مع الاحتفاظ بجنسيتهم". ولكن الالتزام بهذا البروتوكول لم يقع بالشكل المطلوب، على محدودية الحقوق المضمّنة فيه، والتي لا ترقى إلى مجموع الحقوق المضمّنة في اتفاقية جينيف لسنة 1951 المتعلقة بوضع اللاجئ، وتفاوتت الدول المضيفة في مستوى تبنيها له والالتزام به، فطغى على البروتوكول الطابع الاختياري غير الملزم، وألغي رسميا بقرار جامعة الدول العربية 5093 في العام 1991 الذي اقتضى معاملة اللاجئ الفلسطيني "وفق النظم والقوانين المعمول بها في كل دولة"، ما أدّى إلى توفير ذرائع إضافية لدول الضيافة للتملص من الالتزامات القانونية التي أقرّها بروتوكول الدار البيضاء، وما ساهم أيضا في تعميق حالة الشرذمة والتشتت التي يتميّز بها وضع اللاجئ الفلسطيني في الدول العربية المضيفة، والحيلولة تبعا لذلك دون توحيد نظامه القانوني.

طابع تمييزي

وبقي وضع اللاجئين رهين الأنظمة القانونية والسياسية للدول المضيفة التي اتسمت بالاختلاف والتفاوت والطابع التمييزي، فالتشريع السوري، على سبيل المثال، يقتضي معاملة اللاجئين الفلسطينيين معاملة مماثلة للمواطنين السوريين في ما يتعلق بالعمل والتجارة والتنقل خارج البلاد مع الاحتفاظ بجنسيّتهم. وتعدّ الأردن الدولة المضيفة الوحيدة التي منحت اللاجئين الفلسطينيين الذين لجأوا إليها إثر حرب 1948 الجنسية الأردنية وحقوق المواطنة كاملة. أما التشريع اللبناني فأهم ما يميّزه دسترة منع توطين اللاجئ الفلسطيني في صلب توطئة الدستور اللبناني، التزاما منه بقرارالأمم المتحدة 194، المتعلق بحقّ العودة الذي يقتضي عدم منح اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الجنسية اللبنانية بشكل جماعي، بعضهم أو كلهم، لكن اللاجئين الفلسطينيين يُعامَلون معاملة الأجانب، حيث أدرج الفلسطينيون ضمن الفئة الثالثة من الأجانب، وهم أجانب لا يحملون وثائق من بلدانهم الأصلية. وجرى حرمانهم تبعا لذلك من الحقّ في التملك، وتقييد حرية إقامتهم وتنقّلهم وحقهم في العمل، حيث وقع استبعادهم في عددٍ مهم من المهن والأعمال التي تعدّ حكرا على حاملي الجنسية اللبنانية. وقد شهد وضعهم بعض التحسّن منذ سنة 2005 بتمكين الفلسطينيين المولودين في لبنان بالعمل في بعض المهن التي كانت حصراً للبنانيين.

بقي وضع اللاجئين رهين الأنظمة القانونية والسياسية للدول المضيفة التي اتسمت بالاختلاف والتفاوت والطابع التمييزي

كما تأثر وضع اللاجئ الفلسطيني، بشكل ملحوظ، بالظروف والمستجدّات السياسية الداخلية والإقليمية والدولية المتقلبة، فعلى سبيل المثال، تعرّض اللاجئون الفلسطينيون إلى الطرد والترحيل من دول عربية مضيفة في أكثر من مناسبة، ففي 1995، أُكره آلاف من الفلسطينيين على مغادرة ليبيا في ظروف سيئة، وبناء على قرار يقضي بترحيلهم إلى بلدان اللجوء الأولى التي رفض بعضها استقبالهم، نظراً إلى فقدانهم شروط الإقامة فيها، فأقيم لهم مخيّم على الحدود الليبية المصرية سكنه المئات إلى سنة 1997. كما أن غزو العراق الكويت، وتأييد منظمة التحرير الفلسطينية العراق، أدّيا إلى إجبار اللاجئين الفلسطينيين على مغادرة البلاد وفقاً للقانون الكويتي، بغضّ النظر عن المدّة التي مكثوا فيها.

تمايز بين فئتين

أضف إلى ذلك تعدّد الأوضاع القانونية للاجئين الفلسطينيين من حيث الخدمات المقدّمة لهم وظروف عيشهم، حيث يمكن أن نلاحظ تمايزا بين فئتين أساسيتين: التي تشملها ولاية وكالة الغوث (أونروا) والمسجّلة ضمن قائمة خدماتها، سواء داخل المخيّمات المخصّصة للغرض أو خارجها، وفئة ثانية لا تخضع لولايتها ولا تشملها قائماتها، اما اختيارا من اللاجئ ذاته أو اضطرارا لعدم استجابته للشروط المستوجبة من الوكالة، الأمر الذي يؤدّي إلى طبع الوضع القانوني للاجئ الفلسطيني بعدم مساواة مضاعفة تتسم بعدم المساواة بين اللاجئ الفلسطيني ومواطني الدولة المضيفة وعدم المساواة بين اللاجئين الفلسطينيين أنفسهم من حيث الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والخدمات المقّدمة لهم، ومن حيث الحقوق المكتسبة والواجبات المحمولة عليهم، فهذا الوضع يخضع للسلطة التقديرية للدول، وهي غير ملزمة في ضبطه باتفاقية جنيف وغيرها من المعاهدات الدولية، نظرا إلى الوضع الاستثنائي للاجئ الفلسطينين، بل تخضع حصرا للتشريعات والإجراءات الداخلية لكل دولة، وهو أمر يحول دون توفير ضماناتٍ دنيا تكفلها اتفاقية جنيف والمواثيق والمعاهدات المتعلقة بحقوق الإنسان الأساسية المدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، والمعاهدتين الدوليتين لسنة 1966، الأمر الذي يضفي أيضا شرعيةً على اتخاذ قواعد وإجراءات تعسّفية وانتقائية وتمييزية تجاه اللاجئ الفلسطيني من طرف الدول المضيفة.

تطوّر التشريعات الداخلية للدول المضيفة اتّجه، ما عدا بعض الاستثناءات، نحو الانحسار والتضييق، لا نحو الدعم والتعزيز للحقوق المكتسبة

كما اتسم وضع اللاجئ الفلسطيني بعدم الاستقرار نتيجة الحروب والنزاعات التي نشبت في عديد من بلدان الضيافة، كسورية ولبنان واليمن والعراق والكويت. على سبيل المثال، أدّى النزاع المسلح داخل سورية إلى هجرة أكثر من 30 ألف لاجئ فلسطيني منها. ويتاثر وضعه أيضا سلبا بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الدول المضيفة، مثال ذلك أن معدلات الفقر بين لاجئي فلسطين في لبنان مرتفعة، حيث تفيد تقارير "أونروا" بأن 80% منهم يعيشون تحت خط الفقر الوطني اعتبارا من سنة 2023. وتفسر الوكالة الأممية ذلك بعقود من التمييز الهيكلي المتعلق بفرص العمل والحرمان من حقّ التملك، والتي تفاقمت بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية أخيرا في لبنان. إضافة إلى الافتقار إلى الحوكمة في المخيمات وغياب نظام قضائي ونظام إنفاذ القانون. أضف إلى ذلك أن تطوّر التشريعات الداخلية للدول المضيفة اتّجه، ما عدا بعض الاستثناءات، نحو الانحسار والتضييق، لا نحو الدعم والتعزيز للحقوق المكتسبة. ويفسّر ذلك بخصوصية وضعهم الذي كان يفترض أن يكون مؤقتا، لكنه طال وطالت معه معاناتهم في ظلّ تملص المجتمع الدولي من التزاماته ومسؤولياته تجاه تسويةٍ سلميةٍ وعادلةٍ للقضية الفلسطينية، تنهي الاحتلال وتعيد للشعب الفلسطيني سيادته وحرّيته.

خاتمة

نخلص، إذاً، إلى أن معاملة اللاجئ الفلسطيني في الدول العربية المضيفة لا تستجيب عموما للمعايير والقواعد الدولية المنظمّة لوضع اللاجئ، كما صيغت في اتفاقية جنيف، ولا للحقوق والحريات الأساسية للإنسان الواردة في المواثيق والمعاهدات الدولية، فهي تتّسم بطابعها التمييزي والهشّ وبالتفاوت من دولة إلى أخرى، وصلب الدولة ذاتها، وتبقى رهينة التقلبات السياسية والاقتصادية والأمنية الداخلية والدولية والإقليمية. الأمر الذي جعل الوضع الاستثنائي للاجئ الفلسطيني سلاحا ذا حدّين، باعتباره، من جهةٍ، ضامنا دوليا لحقّه في العودة، ومن جهة أخرى، مبرّرا لهشاشة وضعه وعدم توحيد نظامه القانوني، وما يترتّب عن ذلك من حماية دولية منقوصة.

17AF8564-3BED-45F2-91F9-62638915689F
17AF8564-3BED-45F2-91F9-62638915689F
نجيبة بن حسين

أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية

نجيبة بن حسين