محمود عبّاس في قطر
لم يكن محمود عبّاس (86 عاما)، في مواقعه الراهنة، رئيس فلسطين، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، رئيس السلطة الوطنية، رئيس اللجنة المركزية لحركة فتح .. إلخ، عندما أنجز كتابه (166 صفحة من القطع القصير)، "أيام في قطر"، في أغسطس/ آب 2003، والذي صدر بعد 17 عاما من كتابته (دار الشروق للنشر والتوزيع، عمّان، 2020). يروي فيه أبو مازن عن شطرٍ من حياته، من سبتمبر/ أيلول 1957 إلى نهاية 1969، موظّفا في قطر التي قدم إليها، ولم يكن قد أنهى السنة الرابعة من دراسته في كلية الحقوق في جامعة دمشق، وهو اللاجئ الفلسطيني الذي نزحت أسرته من صفد التي وُلد فيها إلى سورية في 1948. يدوّن تفاصيل شائقة، مثيرة، مفاجئة في بعض المواضع، عن تلك السنوات، وقد عمل أولا معلما في قرية الخور (ليست قرية حاليا)، ولا كهرباء ولا مياه ولا طرق في القرى في ذلك الزمن، والحكومة تزوّد المعلّم فيها بأدواتٍ منزلية، منها "ثلاجة تعمل على الكاز"، وكان الشاب الفلسطيني قادما لتحسين وضعه المعيشي، ويتسلم، إلى جانب راتبه، 75 روبية هندية علاوة قرى. وطريفٌ ومهمٌّ أن تقرأ أبو مازن ساردا عن "معجزة" سفره في نهاية العام إلى دمشق ليقدّم امتحانات سنة التخرّج من الجامعة، وهو الذي كان قد استدان قسط السنة الثالثة من صديق له، واستعار كتبها من اثنين اشتركا في شرائها، بعد أن عاد إلى الجامعة لمّا ترك دراسته شهورا في الكلية العسكرية (من أجل أن يكون الشعب الفلسطيني مدرّبا جاهزا لتحرير فلسطين)، وقد التحق بها مضحّيا بدراسته الحقوق، وبعمله معلما في قرية سورية، بموجب حصوله على شهادة الكفاءة (الإعدادية).
ليس مقصد هذه السطور تلخيص كتابٍ قليل الصفحات، غنيٍّ بمعلومات مفيدة، وإنما التأشير إلى أهمية تدوين التجارب الفردية الفلسطينية، سيما المثابرة، في مغتربات الشتات الفلسطيني، وخصوصا في دول الخليج العربية إبّان بواكير نهوضها، وإقامة مؤسّساتها وإداراتها من أجل خدمة مجتمعاتها قبل طفرة النفط والتقدّم المتسارع الذي أحدثته هذه الطفرة في إعمار هذه الدول وتطوير بنياتها ومرافقها، ثم نهوضها الهائل. وأظنّها شحيحةً السير والمذكّرات المنشورة لفاعلياتٍ وخبراتٍ فلسطينيةٍ ساهمت في غير حقلٍ واختصاص في تلك المقاطع المبكّرة من مسيرة دول الخليج. والقيمة الخاصة التي في الوسع تعيينها لكتاب "أيام في قطر" (الأنسب تسميتها سنوات) في الشهادة الشخصية التي يضيء بها محمود عبّاس مسألة ندرت الكتابة عنها، الوعي الحقوقي العمالي في دول الخليج، ذلك أن الشاب العائد من دمشق إلى الدوحة، وقد اقترن بابنة خاله، بعد إجازة صيف سنته الأولى، يجري تعيينُه سكرتيرا للشؤون الفنية في وزارة التربية، وبعد شهور، يصبح ممثلا لحكومة قطر في شركة النفط لشؤون العمّال القطريين (في دُخان). وإذ يسرد أبو مازن وقائع مهمةً في عمله هذا، فإنه يوفّر وثيقةً مهمةً تعرّف بما كان عليه أداء الإدارات الأجنبية لشركات البترول المحلية تجاه العمّال، وكانوا في غالبيتهم عمّالا "من أبناء البلد ومن أبناء القبائل القطرية المعروفة". كانت المشكلات والأجواء معقدة، وحقوق العمّال المنقوصة كثيرة جدا، وعلى الشابّ القادم لحلها رهاناتٌ عديدة. ولأن كل إيجازٍ مخلٌّ بالضرورة، فإن قارئ الكتاب سيتعرّف، هنا، إلى ما يمكن تسميتها حالةً كفاحية، وعلى شخص محمود عبّاس مقاتلا من أجل انتزاع حقوق العمّال وتحسين أجواء عملهم وأوضاعهم ووجبات طعامهم ورواتبهم وإجازاتهم الأسبوعية وبدلاتهم ومكافآتهم و...، وكان يعمل من دون انقطاع، ويصل الليل بالنهار (بمفرداته). ثم يعود إلى وزارة التربية موظفا، وشعورُه بأنه حقّق "إنجازاتٍ هامة"، ليعمل في لجنة التوظيف للتعاقد مع المعلمين الجدد، قبل أن توكل إليه وظيفة ممثل الحكومة لشؤون العمّال في شركة النفط (في أم سعيد)، ولكن هذه المرّة من دون بريق الأولى، ثم يعود إلى وزارة التربية.
أما عن عمل محمود عبّاس السرّي السياسي، في سورية إبّان شبابه الأول، ثم منتسبا في حركة فتح في دولة قطر، ومساهمته في تأمين تمويل (وسلاح) للحركة، فالحديث عنها في الكتاب ليس عابرا ولا تفصيليا، لكن القارئ يقع على ما قد يُحسَب مفاجئا ومدهشا (ومفرحا). وعلى قلة صفحاته، فإن السطور أعلاه لم تأت على كثيرٍ مما في "أيام في قطر"، فمُرادها، في البدء والمنتهى، الدعوة إلى مطالعة كتابٍ له نفعُه في التعريف بتجربة لاجئٍ فلسطينيٍّ في مغتربٍ خليجيٍّ، في سنوات كفاحٍ معيشيٍّ خاصة وبناء دولةٍ عربيةٍ كانت قيد النهوض.