محمد منير وعلي الحجار: الحدّوتة المصرية
مشهد أول: محمد منير يدخل مملكة الترفيه، يقف على المسرح ذاته الذي سبقه إليه بيكا وشاكوش ومفك وعظماء سلسلة ما يعرّف بفن المهرجانات، والمناسبة تكريم الملحّن المصري، هاني شنودة، الذي كان واحدًا من قادة ما سمّي الغناء البديل في مصر مع بداية السبعينات من القرن الماضي.
مشهد ثان: علي الحجّار يدخل مدينة الملاهي ذاتها، تقريبًا، مشاركًا في برنامج المقالب الذي تعتمد فكرته على إهانة الضيف، لكي يضحك الجمهور عليه طوال شهر رمضان، على واحدة من الشاشات المملوكة للجهة الترفيهية ذاتها.
يعود محمد منير من الرياض ليقوم ببطولة إعلان تلفزيوني يروّج وحداتٍ سكنيةً فارهة في واحدةٍ من محميات الأثرياء المعزولة عن عموم المصريين.
فلاش باك: في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، ظهر علي الحجّار ومحمد منير مُحدثين ثورةً في الغناء المصري، ليقدّما ما عرفت بالأغنية البديلة، أو أغنية الناس في مواجهة بطش السلطة، وأغنية الجماهير الباحثة عن الحرية والمساواة والإخاء، كما فعل محمد منير وهو يكلّم الناس المكبوتة عن الحدوتة المصرية، حدوتة الإنسان.
كان هذا الوجه النوبي الأسمر قد لمع كالشهاب معلنًا عن ثورة في الغناء، ليشقّ طريقه نحو الشهرة والانتشار من سكّة اليسار، ويغني للنضال والمقاومة وللإنسان المطحون المقهور، ضد الاستبداد السياسي والرجعية الفكرية، ويذهب إليه مئات الشباب من طلبة الجامعة، كلّ ليلة، إلى المسرح في وسط القاهرة، ليشاهدوا ويسمعوا أغنياته في رائعة سعد الله ونوس "الملك هو الملك" التي زيّنها غناء كلمات أحمد فؤاد نجم وبيرم التونسي عن الطغيان الذي يسرح كالجراد في حياة الدول، فيمصّ دمها ويكسر عظام الشعوب.
الفرع الآخر من نهر الغناء الجديد/ البديل في مصر، كان يمثله علي الحجّار، مقدّمًا رومانسية مختلفة، كتبتها أقلام جيل شابٍّ جديدٍ من المؤلفين، تحرّرت معها الأغنية من سجن المعاني القديمة المحنطة للحب وللحياة، كما هما في المجتمع المخملي القديم، لتنفتح أكثر على البسطاء والمهمّشين والكادحين.
لم يكن غريبًا كذلك أن تتّسع الأغنية الجديدة الثائرة التي قدمها منير والحجار للمقاومة في فلسطين، وفي لبنان، وفي كلّ أرض عربية تعرف عدوها الواحد.
كان محمد منير يصرخ وينادي على مصر في عزّ مجده الغنائي، يقول لها: "اتكلمي، المشربيات عيونك بتحكى ع اللى خانوكى واللى سنين هملوكى جوة البيبان سلسلوكى وليه تسكتى زمن؟ اتكلمي".
باقي القصة معروف، فقد تبدّل الحال وانتهى الأمر بالمغني الثائر مطربًا في حفلات الطغيان، مسجّلًا حضوره بوجهه الجديد في مؤتمر السيسي الأول في شرم الشيخ مارس/ أذار 2015 ، ورأينا الذي غنّى لعروس المقاومة الشهيدة، سناء محيدلي، في الثمانينات يتمايل مفتوناً برقص فتاة 30 يونيو/ حزيران على مسرح شرم الشيخ. فيما اختار زميله على طريق ثورة الأغنية، علي الحجّار، أن ينشد في مديح التفرقة العنصرية بين أبناء الوطن الواحد ويغنّي "أنتم شعب واحنا شعب"، قبل أن يهبط أكثر إلى مستوى المشاركة في برنامج المقالب ليتعرّض للإهانة، مدفوعة الأجر، ثم يخرُج بعدها ليشكو مما جرى له، والذي لا يتناسب مع قيمته وتاريخه، وهو محقّ في ذلك طبعًا، لكن السؤال: هو لماذا قبل الحجّار على نفسه أن يكون في هذا الموقف، وكيف هان عليه تاريخُه وقيمته إلى الحدّ الذي لم يستطع أن يقول معه: لا للعبث ولقلّة القيمة؟ الأمر نفسه في حالة محمد منير، كيف وصل الحال بملك الأغنية المتمرّدة على فساد الذوق والسوق إلى الغناء للكومباوندز؟
ما سبق ليس حكاية محمد منير وعلي الحجّار، بل حكاية وطنٍ اسمُه مصر، فإذا أردتَ أن تعرف ماذا حدث لمصر، تأمل في مسيرة النجمين لتدرك معنى انتحار القيمة والمعنى والتاريخ.