محمد بنسعيد... جذر من سلالة الرجال في المغرب
هو صنفٌ نادرٌ من الرجال. إذا حضر في لقاء أو مجمع امتلأ المكان بالمهابة والوقار والجلال، وإن كان يبدو بطربوشه، الوطني الأسود الذي لا يفارق هامته إلا عند النوم، شخصية وديعة مسالمة في منتهى البساطة والتواضع. يمشي في استكانة ويلتفت في استكانة، وتجرّك إليه منذ الوهلة الأولى نظرة هادئة مطمئنة وبسمة لطيفة صافية معلقة على شفتيه كوسام شرف، يرى فيها محبّوه شارة نصر خفية، ويرى فيها أعداؤه استفزاز متأهب صامت.
إنه محمد بنسعيد أيت إيدر، الوطني المغربي الحرّ الذي ملأ دنيا العرب رفضا للظلم والاستعمار ومواجهة للفساد والاستبداد. مُعْلنها "لا" مدويةً طبعت مسيرته المديدة. لأنه مَرَد على قولها في الوقت الضاغط الحرج، حين تستسلم الرخويات السياسوية وتركع أمام جبروت السلطان، ويبقى هو وحده كالشجرة الصامدة التي لا تقوى على ثنيها الرياح العاتية.
مع أبناء شعبه ووطنه "كانت لاؤُه نَعمُ" بالاستعارة من قصيدة الفرزدق في حقّ علي زين العابدين بن الحسين، لأنه إنسان وديع يستهويه العيش مع البسطاء، حيث إن صدقه العميق في كل أمور حياته، وقدرته الخارقة على الجهر بالحق، أوجدا له هالة من التقدير والاحترام لا يجسر على خدشها حتى أعتى المتنفذين في البلاد. فقد وهب هذا الرجل الشطر الأول من حياته للكفاح المسلّح لأجل استقلال وطنه من نيْر الاستعمار الفرنسي والإسباني الغاشم، مستلهما ثورة الشعب الفلسطيني ضد الإنكليز والصهاينة سنة 1936 التي تحدّث عن أنها فتحت وعيه على محاربة الاستعمار. أما الشطر الثاني من حياته، فنذره لمحاربة الفساد والاستبداد، حيث مشى على سكّة رفاقه المهدي بن بركة وشيخ العرب وعبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري، فعُذّب وحكم بالإعدام في فترتي الاستعمار والاستقلال، لكنه ظلّ كما هو، لم يبدّل تبديلا حتى بلغ أجله الذي كتبه الله له. ليرحل بغصّتين في حلقه، غصّة المغرب الذي تأجل فيه حلم الديمقراطية إلى أجل غير مسمّى، وغصّة فلسطين الشهيدة التي كانت بالنسبة إليه قضية مقدّسة، فرآها في آخر أيامه وقد تكالب عليها بنو صهيون ومن يقف بجنبهم من دول غربية عظمى وأنظمة عربية صغرى في سلم القيم والالتزام.
إنسان وديع يستهويه العيش مع البسطاء، وكان صدقه العميق في كل أمور حياته، وقدرته الخارقة على الجهر بالحق، أوجدا له هالة من التقدير والاحترام
عاش المجاهد بنسعيد قرابة قرن، فما أصابه في الدعوة إلى الحقّ نصبٌ ولا وهن، ولا ثناه عن النضال من أجل الحرية والكرامة تخويفٌ ولا تهديد. وأكتفي هنا بذكر موقفٍ جليل من بين مواقفه التي لا يحصيها عدٌّ ولا حساب، موقفٌ يهمنا نحن قدماء معتقلي تزمامارت الرهيب. فقد كان سر هذا المعتقل الجهنمي قد أخذ ينتشر رويدا رويدا في مجتمع مغربي موشوم بالقهر والرعب. وكانت الثقة في تلك الحقبة المسمّاة سنوات الجمر والرصاص عزيزة حتى بين أفراد الأسرة الواحدة. وما أن التقطت القنوات الإعلامية الدولية الخبر وشرعت تتداوله بشكل متواصل، حتى هرع الإعلام الرسمي المغربي إلى تكذيبه، مدّعيا أن كل ما يروج هو مجرّد دعاية مغرضة تروم ضرب "الديمقراطية المغربية العتيدة". ولمّا قويت البلبلة وتناسلت الإشاعات، انقسم الناس بين مصدّق ومكذّب، فعمّت بذلك حيرة كبيرة واضطراب عارم، وأخذت أسئلة حارقة خرساء تُلهب الشفاه، فما وجدت لأحد من شجاعة وعزم لطرحها علانية توجّسا من سوء المصير. وهنا انبرى بن سعيد للساحة، وطلب من حلفائه في "الكتلة الديمقراطية" أن يجتمعوا لبلورة سؤال واضح وصريح كي يُطرح في البرلمان، فتلكأوا جميعهم وتماطلوا، وقال أحسنهم حالاً وكان معروفا بالخبط على الطاولات تظاهرا بالدفاع عن مصالح الشعب: "إن الظرفية غير مناسبة لطرح سؤال خطير كهذا... ". وهل كان يناسبهم في شيء أن يغامروا بمصالحهم عبر إرباك الحاكم من أجل الاستفسار عن حفنةٍ من أبناء الشعب البسطاء الذين كان تقتيلهم في السر والظلام لا يثير فيهم حتى هزّ أكتافهم من اللامبالاة؟
وفي هذه الأجواء المشحونة بالخوف والترقب، تقدّم المجاهد محمد بن سعيد أيت يدر، وحيدا كالليث اليتيم، بعدما ضرب صفحاً بكل أنواع التخويف والمناورات والتهديدات، وأطلق السؤال القنبلة الذي زعزع البرلمان، وجعل أعضاءه يستغشون ثيابهم تخوّفا من سقفٍ قد يخرّ من فوقهم. فوقف أحدُهم من المنافحين عن الباطل يريد إسكاته، وكان وزير دولة حينها، فما كان من الرجل الأبي إلا أن رد عليه بهدوئه المعهود: ـ إن لم تقفل فمك يا هذا فسوف أفضحك وأقول للملأ من تكون. ... والتمس المهدّد السلامة وأغلق فمه وكأنما ألقم حجراً. وقد كان لهذا السؤال ما بعده، لأن بقية الحكاية انتهت بالإفراج عنّا كما هو معلوم.
عاش المجاهد بنسعيد قرابة قرن، فما أصابه في الدعوة إلى الحقّ نصبٌ ولا وهن، ولا ثناه عن النضال من أجل الحرية والكرامة تخويفٌ ولا تهديد
ومن مواقف بنسعيد التي أثارت جدلاً كثيراً ما جرى بينه وبين الحسن الثاني من شنآن في اللقاءات القليلة المباشرة التي كانت بينهما، فقد جرى لقاؤهما الأول بعد الاستقلال سنة 1980، فكان اللقاء، كما كان متوقّعاً، بارداً وخالياً من أي ودٍّ أو مجاملة، لتتتالى بينهما سلسلة من الوقائع طبعها عدم التفاهم والتصادم. وفي إحدى المناسبات التي استقبل فيها الملك بقصره بفاس رؤساء البعثات السياسية المتوجهة إلى أديس أبابا للمشاركة في القمّة الأفريقية، تقدّم رؤساء الأحزاب للسلام عليه، فركعوا له ثلاثاً كما هي العادة، ثلاث خطواتٍ تقريباً بين الركعة والركعة، ثم تهافتوا على يده يقبلونها ظهرا وبطنا، ولما جاء دور بنسعيد، اكتفى بوضع يده على كتف الملك، وحين هم بالانصراف، أوقفه وسأله برنة احتقار:
ـ من تكون أنت؟ فأجاب الرجل النبيل بهدوئه المعهود: ـ بنسعيد أيت يدر. ـ إن للمخزن طقوسا عليك أن تحترمها.. فما كان جواب الرجل إلا أن أجابه بأنه لا يعرف هذه الطقوس، ثم استدار ورجع من حيث أتى من دون أن ينبس ببنت شفة. فقامت الدنيا ولم تقعد، واستشاط المخزن غضباً من هذا الرجل العنيد الذي لم ينل من عناده لا المستشار أحمد بنسودة ولا الوزير إدريس البصري حين طالبه بالاعتذار عن رفضه طقوس تقبيل اليد المهينة، حيث أجابهما بثقة واعتداد:ـ لستُ غرّاً في هذه البلاد حتى يملي عليّ أحد ما ينبغي أن أقوم به، كما أني لم أفعل ما يشين حتى أعتذر عنه. ... كانت المسألة بالنسبة للرجل، كما قال، مسألة كرامة، وهو لم يكن له من مكسب سوى هذا الكنز الثمين الذي كان يعضّ عليه بالنواجذ، فكيف يهدره في تقبيل يد رجلٍ يأكل الطعام ولكن لا يمشي مثله في الأسواق؟
هل ستلد مغربية في هذا الزمن الأغبر رجلاً أصيلاً مثل محمد بنسعيد؟ رحم الله هذا المجاهد الفذّ وأسكنه فسيح الجنان.