محمد الفارس وحاجة السوريين إلى رمز
اكتشف السوريون، في الأسبوع الماضي، أنّ بينهم رجلاً يتحلّى برمزية عالية، هو رائد الفضاء اللواء محمد فارس. ولكن كما درجت العادة، جاء الاكتشاف مُتأخّراً جدّاً، لأنّ الرجل فارق الحياة في مدينة غازي عنتاب في تركيا. وما أن شاع خبر دخوله المستشفى بسبب أزمة صحية طارئة، حتى بادر سياسيون وإعلاميون وشخصيات اجتماعية وثقافية إلى نشر تعليقات وتغريدات تشيد بمناقبه، وتتمنّى له أن يتجاوز العارض، ويخرُج من المستشفى بالسلامة والعافية. ولكن شاء القدر أن يُتوفى، ليحظى برثاء واسع، عكس حالة من الإجماع قلّ نظيرها. وركّزت غالبية المراثي على الإشادة بمسيرة فارس ونزاهته، وتواضعه ومواقفه الصلبة ضدّ النظام السوري، وانحيازه إلى ثورة الشعب منذ البداية. ورافقت عملية تشييعه ودفنه في مثواه الأخير، في مدينة إعزاز في ريف حلب، في داخل سورية، مظاهرات شعبية حاشدة، أظهرت مدى التقدير الذي يُكنّه الناس له، وساهم في ذلك أنّه من المنطقة نفسها، ويعرفه كثيرون بصورة شخصية، بفضل الشهرة التي حظي بها بعد رحلته إلى الفضاء مع فريق سوفييتي عام 1987، وانشقاقه عن النظام في 2012، وكشفه بعضَ مخطّطات الأخير ضدّ الثورة، ومحاولاته عام 2015 توحيد كتائب المقاتلين داخل مدينة حلب، التي دخلها في ذلك الوقت مرّات من أجل هذا الهدف.
كان فارس من بين الشخصيات التي انخرطت مباشرة في العمل العام، الذي رافق مسيرة الثورة، وهو الذي لم يسبق له أن تولى منصباً قيادياً داخل هيئات المعارضة، وبقي على موقفه المعارض للنظام، والمؤيد للثورة، رغم حالة التدهور التي أصابت الحالة السورية، وأوصلتها إلى طريق مسدود. وهنا يجدر التوقف عند نقطة مهمّة، أنّ محمد فارس شخصية لم تأخُذ حقها من الاهتمام السياسي والإعلامي من المتحكّمين بالمشهد، رغم أنّه يمثل رصيداً مهمّاً للسوريين، ويحظى بالاحترام، ولا يمكن أن يكون التهميش الذي تعرّض له نابعاً من إهمال أو تقصير فقط أو نتيجة عزوف من جانبه، وكانت تجربته، رائدَ فضاء وضابطاً كبيراً برتبة لواء انشقّ عن جيش النظام، تخوّله شغل موقع متقدم. ومع أنّ الوضع لم يكن مشجّعاً بسبب تصدّر شخصيات ليست جديرة بمسؤولية قيادة الثورة، فإنّ استبعاد فارس يُعدّ خسارة كبيرة، ويكشف عن خلل مقصود، يتمثّل في الحسابات الخاطئة، والنزاعات داخل هيئات الصفوف القيادية، وارتهان بعضهم لأجندات أجنبية، واستشراء الفساد السياسي، وبروز ظاهرة أمراء الحرب الذين يسيطرون على مساحة من الجغرافيا السورية، وهم يرفعون علم الثورة، في حين أنّ برامجهم بعيدة كلّ البعد عن الأهداف التي قامت الثورة من أجلها.
التكريم الشعبي الكبير الذي حظي به فارس يمكن أن يُعزى إلى ثلاثة أسباب. الأول، يعود إلى شخصه وما يتحلى به من نزاهة وتواضع ومكانة علمية، وقد عبّر احترام الناس وتقديرهم له عن وعي صافٍ يعلو الاعتبارات كافّة. والثاني، رأس المال الرمزي الذي مثّله طوال حياته، إذ كان في صفّ الناس، ولم يكن من رجالات النظام. والثالث، الحاجة إلى رمز سوري يلتفّ حوله السوريون في ظلّ عدم وجود قيادات سورية تَحظى بالإجماع والتقدير تتولّى إعادة البناء والعمل على مواصلة مشروع التغيير الذي قامت الثورة من أجله. وهذا أمر يدعو إلى وقفة من جانب الشخصيات والأحزاب ومنظّمات المجمتع المدني، التي نأت بنفسها خلال الأعوام الأخيرة من أجل المراجعة والتقييم، والاجتهاد من أجل وضع خريطة طريق تقوم على تطوير القواسم المشتركة، والتحرّك على المستوى السوري، في داخل البلاد وخارجها، بهدف كسر حالة الجمود في القضية السورية وعدم تركها رهينةً بيد القوى الأجنبية.