محمد أبو الغيط... الرحيل إلى كامل الأنوار
[1]
عندما قيل لنا إنه في غيبوبة، عرفنا أنها النهاية. لكننا خادعنا أنفسنا طمعاً في معجزة.
لم تأت المعجزة.
[2]
كان شجاعاً. ليس لأنه لم يخَف من الموت. كان شجاعاً لأنه خاف من الموت، لكنه قاوم خوفه. قبل غيبوبته بأيام، كان يعمل على كتابه الذي صدر بعد غيابه. كنت أفهم ذلك، لأنه في آخر حديث بيننا قال إنه يحاول أن يعيش يوماً بيوم وينجز عملاً جديداً.
هكذا كان يقاوم خوفه من الموت. بمزيد من العمل، ما سمحت له طاقته، وبالحياة يوماً فيوم. كان يعرف أن الموت ينتظره في الغد، أي غد، فراوغه بأن يعيش يومه.
[3]
"قال لي الطبيب: أنت الآن وصلت إلى نهاية الأرض التي يعرفها العلم وانتهى الأمر. لا أقول لك إن رأي د. فلان خاطئ أو أن رأيي خاطئ، كلانا لا يعرف، نحن نخمّن فقط!
قال ذلك في إطار نقاشنا حول اختيار أحد مسارين علاجيين، كلاهما يحمل احتمالا ضئيلاً بالنجاح، بعد سلسلة من النتائج السيئة وفشل الأدوية مؤخرا.
"نهاية الأرض التي يعرفها العلم" .. في ظروف أخرى كنت سأفكر في هذا التعبير الشاعري، متأملاً في عجز الإنسان أمام الأسئلة الوجودية المجهولة، وكذلك أمام أعدائه القساة منذ الأزل: الزمن والموت"
محمد أبوالغيط، 26 فبراير 2022
[4]
عرفت محمد أبو الغيط حوالي 10 سنوات. لم يكفّ فيها يوماً عن إبهاري. كلما قرأتُ له مقالاً، أو تدوينة، وجدت شخصاً استثنائياً.
جاء في الأثر أن الله تعالى إذا أحبّ عبدا دعا جبريل، فقال: إني أحبّ فلانا فأحببه، فيحبّه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحبّ فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وقد كان أبو الغيط مقبولاً في الأرض، محبوباً من كل من عرفه.
في زمن توحّش "السوشيال ميديا"، والمعارك الصفرية، والسياسة قاطعة الرقاب. مشى أبو الغيط تحت مظلة اللين والحكمة بلا ادعاء ولا تعالٍ، فكسب المودّة والمحبة أينما حل.
أن تكون محمد أبو الغيط في زمن يتكسّب الناس فيه الشهرة بالفحش، والصراعات، والصخب فارغ المحتوى يعني أن تكون، موضوعياً، عاقلاً، مقدّساً للمعلومة والكلمة الطيبة.
أن تكون محمد أبوالغيط في هذا الزمن يعني أن تموت قبل منتصف عقدك الرابع.
[5]
"قرّرت أن أبدأ رسالتي الخضراء"
محمد أبوالغيط، 11 مايو/ أيار 2022
[6]
نعى نفسه بكتاباته الأخيرة عن مرضه بالسرطان. أكثر من عام، كان يهيئنا لاقتراب رحيله. وكأنما أراد أن يكمل أسطورته بمنحنا التعبير الذي سنذكره كلما ذكرناه. "أنا قادم أيها الضوء".
وكان ذلك تواضعه الأخير، فقد كان هو الضوء، وكان لمعانه القصير في الحياة دفقة لم تناسب الظلام، فرحل إلى حيث تكتمل الأنوار. هناك في مكان لم يعد منه أحد، وتسكنه قلوب خضراء كقلب محمد.
[7]
"يزداد شغفي بنباتاتي وكذلك تزداد آلامي"
محمد أبو الغيط، 17 يونيو/ حزيران 2022
[8]
ما كان مجرد صحافي محترف في زمن لا محترفين فيه إلا أهل النفاق. كان صادقاً حدّ الوجع، وحدّ الموت.
قلة من البشر يتركون في نفوس الناس أثراً. كل الموتى يوجعون شخصاً ما. لكن الزمن يشفي الأوجاع. لكن قلة من تظل تذكر فضلهم وما تعلمته منهم. ومحمد أبو الغيط من قلة القلة.
[9]
محمد أبو الغيط.
24 أكتوبر/ تشرين الأول 1988 - 5 ديسمبر/ كانون الأول 2022.
مقدم النور، ورحيله.