محاكمة غورباتشوف على وجبة بيتزا

07 سبتمبر 2022
+ الخط -

وفاة ميخائيل غورباتشوف حدث يشرّع أبواباً إضافية لمحاكمات التاريخ. صحيح أن الرجل بأعوامه الـ91 قد يكون أكثر شخص قيل في حقه، خلال العقود الماضية، الإيجابي والسلبي، الشتم والتكريم، التقدير والهجاء، لكن يبقى للرحيل مفعول خاص في إسالة الحبر وانطلاق الألسن. لا غرابة في ذلك، فغورباتشوف شخص تاريخي، أنهى الحرب الباردة، سمح بتوحيد ألمانيا، أسدل الستار عن حرب أفغانستان، حاول إصلاح الاتحاد السوفييتي فانهار المبنى، جرّب توسيع الحريات وإصلاح ما ربما يستحيل إصلاحه عبر البيريسترويكا والغلاسنوست (إعادة البناء والانفتاح). أبرم زواجاً تاريخياً مع الغرب فكان الطلاق دموياً. قد يكون أدقّ ما قيل فيه بعد رحيله ما كتبته افتتاحية صحيفة "ذي أوبسرفر" البريطانية: لقد طوى ماضياً بائساً، لكنه عجز عن التأسيس لمستقبل مشرق.

لمحاكمة الماضي بعيون الحاضر، متخصّصين، مؤرخين كانوا أو علماء اجتماع أو سياسيين. تصادف التقييم الوصفي الجاف الذي يحاول ادعاء الحياد كأن يكتب فلاديمير بوتين في برقية التعزية أن غورباتشوف "كان له تأثير كبير على تاريخ العالم". ثم تعثر على الموقف الحقيقي لبوتين يترجمه أحد شارحي أفكاره، المتحدّث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، الذي لا مكان عنده لإتيكيت "اذكروا محاسن موتاكم": غورباتشوف، بحسب قول بيسكوف يوم وفاة الرجل، "كان صاحب نظرة رومانسية ساذجة غير مبرّرة تجاه الغرب، وهو ما كان على الرئيس بوتين تصحيحه". كيف لا وغورباتشوف هو المسؤول بحسب بوتين عن "أكبر كارثة في القرن العشرين"، أي انهيار الاتحاد السوفييتي. وترجمة موقف بوتين من غورباتشوف معروفة بعد مماته: لا جنازة رسمية على عكس التكريم الحار الذي ناله بوريس يلتسين نكاية بغورباتشوف نفسه. لا حداد وطنياً. لا حضور بوتين الدفن "لانشغاله بأمور أخرى"، ومجرّد عنصر من حرس الشرف الروسي لتنظيم الوداع الأخير لصاحب جائزة نوبل للسلام (1990).

بوتين واحد من ملايين الروس الذين يكرهون غورباتشوف. أسباب كرهه عند كارهيه تتفاوت. منها ما يوردها أندريه كولسنيكوف، الباحث في معهد كارنيغي الذي يبرر ضعف شعبية الرجل داخل روسيا، أمس واليوم، بقوله إن "الزعماء الذين يعطون الحرية للشعب غير محبوبين في روسيا. الروس لا يحبون الحرية لأنها صعبة، ولأن في الحرية مخاطر كثيرة، بينما في ظل الأنظمة القمعية، يُقال لك ماذا تفعل وكيف تفكر ولمن تصوّت". كلام قد يكون فيه تعميم كثير، لكن قد تجد في التاريخ ما يسنده، وفي علم الاجتماع السياسي ما يؤكد أن الديمقراطية تتطلب تمريناً وتضحيات وتعباً. عام 1998، صوّرت "بيتزا هات"، أكبر سلسلة مطاعم بيتزا أميركية في العالم، التي افتتحت أول فرع لشركة أميركية في روسيا عام 1990، حتى قبل Kfc وماكدونالد وستارباكس، إعلاناً ترويجياً مدته دقيقة و11 ثانية، بطلاه غورباتشوف وحفيدته أناستازيا. إعلان لم يُبث يوماً في روسيا، مع أنه جرى تصويره في موسكو، وتقاضى غورباتشوف مقابله مليون دولار. في الإعلان الترويجي، يدخل غورباتشوف وحفيدته مطعم "بيتزا هات" في موسكو، فتلحظ عائلة روسية وجوده، ليدور بين أفراد العائلة سجال قد يختصر الكثير مما يمكن قوله عن الراحل اليوم. يقول الأب بمرارة: بسببه لدينا فوضى اقتصادية. لدينا عدم استقرار سياسي. يجيبه ابنه العشريني بنبرة تحدٍّ: بفضله لدينا فرص. لدينا حرية. لدينا أمل. سجال تختتمه الأم بحكمة أرادتها "بيتزا هات" اختزالاً للحرية بشريحة بيتزا: بفضله أصبحت لدينا أمور كثيرة. بيتزا هات مثلاً.

طال تفاوض "بيتزا هات" مع غورباتشوف، ليس للاتفاق على البدل المالي للإعلان، بل لأن الزعيم السوفييتي السابق أصرّ على عدم تذوق شريحة البيتزا، على الأقل أمام الكاميرا. الحفيدة فعلت ما عجز الجد عن "ارتكابه". وللفضوليين حق معرفة أن المليون دولار الذي تقاضاه غورباتشوف خصصه لتمويل مشروع بناء مكتبة البيريسترويكا ومشروع توثيق لها "لأنه من الضروري أن يُحفظ كل ما حصل في هذين المركزين" على حد قوله.

بإمكان فلاديمير بوتين إصدار أمر اليوم: هدم المكتبة وإلغاء مشروع التوثيق، في حال كانا لا يزالان على قيد الحياة.