محاكمةُ شهيدٍ مصري
ليس هناك سببٌ موضوعيٌّ للغضبِ من العميدِ السابق بالجيشِ المصري، سمير راغب، الذي قال في مداخلةٍ تلفزيونيةٍ، تعليقاً على استشهادِ جندي مصري بالرصاص الصهيوني في رفح: "إن الإسرائيليين لو خالفوا الاتفاقية أو دخلوا محور فيلادلفيا هتتحسب مخالفة عليهم، وهتتحل بدفع غرامة وخلاص". ... لم يفعل الرجل أكثر من تأكيدِ الواقع الفعلي بين الطرفين، بل إنّه يبدو مجاملاً ومتفائلاً للغاية حين يفترض أنّ الصهيوني سيدفع مخالفة قتل الشهيد، ذلك أنّه لم يثبتْ في أيّ وقت أنّ الاحتلال يعتذر عن جرائمه أو يعاقب عليها، ناهيك عن أنّ الشهداء المصريين الذين يموتون بالرصاصِ الصهيوني ليسوا من النوعِ الذي تفضّله الإدارةُ المصرية التي ترى ما يُقدمون عليه من وقوفٍ بوجهِ العربدةِ الإسرائيلية على الحدود مجرّد تصرّفاتٍ فردية، أو أخطاء فريدة يرتكبها أشخاصٌ مضطربون نفسيّاً في العادة، أو بتعبيرِ البيان العسكري الرسمي عناصر تتصرّف فرديّاً بعيداً عن المنظومة.
الرواية التي أعلنها الجانب الإسرائيلي للحادث هي التي ستعتمدها الحكومة المصرية، إذ تقول إذاعة جيش الاحتلال إنّه "جرت في اليوم الأخير محادثاتٌ عديدة بين مسؤولين في الجيش الإسرائيلي والشاباك ونظرائهم في الجانب المصري، وتحاول كلّ من إسرائيل ومصر إبقاء الحدث بعيداً عن الأضواء، وهناك تفاهم مشترك بين الجانبين اللذيْن يحاولان إغلاق الحدث".
طبيعي، والحال كذلك، ألّا يصدرُ بيانٌ رسميٌّ مصريٌّ يتضمّن اسم الجندي الشهيد، وألّا يُشيّع في جنازةٍ عسكرية إلى مثواه الأخير، مثلما كان يحدُث مع استشهاد جنود في ما تسميها الحكومة "الحرب على الإرهاب" في سيناء، التي تدور بإسنادٍ إسرائيلي، حيث يعتبر الصهاينة أنفسهم شركاء وحلفاء للجانب المصري فيها.
لن يعتذر الصهاينة، ولن يعاقبهم أحد، لأنّهم يدركون أنّ الطرفَ الآخر لم يعد يملك القدرة على الغضب، ولا يهتم بالثأرِ لشهيدٍ أو لكرامة، بل إنّ هذا البطل الشهيد الفلاح البسيط الجندي، عبد الله رمضان حجّي، ابن قرية العجميين في الفيوم، بحسِّ المنشور عنه، شعبياً لا رسميّاً، كان من الممكن أن يُحاكم ويُعاقب بالسجن، أو بالحدِّ الأدنى يُتهم بالخللِ النفسي لو بقي على قيدِ الحياة.
السؤال هنا: ماذا لو كانت نتيجة الاشتباك سقوط قتيل أو قتلى من الجانبِ الصهيوني؟ أو ماذا لو كان الشهيد المصري قد سقط برصاصةٍ فلسطينية أُطلقت بالخطأ من رفح؟ ما هو المتوقّع أن تفعله الحكومة المصرية؟
لا حاجة للتخمينات والافتراضات هنا، فلدينا واقعتان حدثتا بالفعل يمكن أن تُجيبا عن التساؤلات. تعود الواقعة الأولى إلى شهر ديسمبر/ كانون الأول 2018، حين أذاعت محطّة تلفزة إسرائيلية أنّ ضابطاً مصريًا زار قرية نيتسانا جنوبي الأراضي الفلسطينية المحتلة، للاعتذار عن رصاصاتٍ أُطلقت بشكلٍ خاطئ، خلال تدريب قرب الحدود ولم تؤد إلى إصاباتٍ بشرية، وإنّما أصابتْ مقطورة بالقرية الإسرائيلية القريبة من الحدود.
دارت أحداث الواقعة الثانية ليلة 26 سبتمبر/ أيلول 2020، حين أطلقت القوّات المصريّة النارَ على مجموعةٍ من الصيّادين الفلسطينيين، فقتلت منهم اثنين، هما الشقيقان محمود وحسن الزعزوع في عرضِ البحر قرب الحدود مع قطاع غزّة، فيما أصيب شقيقهما الثالث، من دون أن يقدّم الجانب المصري اعتذاراً أو يهتم بتوضيحِ ما جرى، فقط سمعنا في وسائل الإعلام من يحتفل بقتلِ الصيادين ويتوعّد بالمزيد.
الحاصل أننا نعيش منذ أكثر من عشر سنوات محاولة صهينةِ الوجدان الشعبي المصري، بحيث تُصبح الفرجة على العدوان الصهيوني ضدَّ الشعب الفلسطيني منتهى الحكمة، وتصير مصمصة الشفاه أمام المذابح اليومية منتهى التعاطف والتضامن، فيما تنشط أسرابٌ من لجانِ النظام، ترى في أيّ دعوةٍ لردِّ الإهانةِ والدفاع عن الكرامة خيانةً للوطن ومحاولة خبيثة لجرِّ مصر كي تخوضَ حرباً ليست حربها، تخدش أمنها القومي وسيادتها على أرضها، على الرغم من أنّ الصهيوني يعبثُ بهذا الأمن القومي ويصفع السيادة كلّ يوم، وهو واثقٌ تماماً من أنّ لا ردّة فعلٍ هناك في بلدٍ لا يعترف بالشهداء.