متى تلقي إسرائيل العرب في البحر؟
بلغ عدد المصريين مائة مليون مواطن، وبذلك يكون عدد السكان العرب قد اقترب من 450 مليون شخص، هناك نحو سبعة ملايين منهم على الأقل عسكريون، ورجال أمن، تقريبًا هم عدد السكان الصهاينة المحتلين للأراضي العربية في فلسطين والجولان.
رقميًا، هناك عسكري عربي مقابل كل مستعمر صهيوني .. هذا العسكري العربي نصيبه من ميزانية بلاده يزيد بما لا يقارن عن نصيب المواطن العربي العادي، لكن المفارقة أن السبعة ملايين مستعمر صهيوني لا يرون خطرًا في السبعة ملايين مقاتل عربي، الذين صارت وظيفتهم قمع الـ 450 مليون مواطن عربي وإخضاعهم، وعلى نحو خاص من يرى إسرائيل على الوجه الصحيح، كيانًا استعماريًا محتلًا غاصبًا وسارقًا للأرض.
تخيّل لو أن كل عسكري عربي يعرف أن عدوه ليس المواطن المدني الحالم بالديمقراطية والتقدّم والحرية في وطنه، وإنما ذلك الصهيوني المحتل لفلسطين.
وتخيل أيضًا أن العسكري العربي لا يزال يحتفظ بعقيدته العسكرية سليمة وصحيحة ونقية من دون تلوث أو تشوّه، بحيث يكون مستقرًا في يقينه أن فلسطين قضية كل العرب، عسكريين ومدنيين، وأن وظيفته هي حماية حدود وطنه، وليست حماية أمن العدو المحتل وحراسة خطوط الغاز المسروق منا، والمباع لنا بأثمانٍ مضاعفة.
تخيّل كذلك لو أن كل عربي، عسكريًا كان أم مدنيًا، يعتزّ بوطنه الأصيل العريق الممتد في عمق التاريخ والجغرافيا، كما يفعل الصهيوني في علاقته بما اغتصبه منا وأسماه وطنًا، رغم أنف الجميع.
تخيّل لو أن العربي تحرّر من هذا الشعور القاتل بالدونية أمام أعدائه، تلك الدونية التي زرعها في وعيه حكامه ومثقفوه وشيوخه وكهنته الساهرون على مصلحة العدو، حتى صار بعضهم صهاينةً أكثر من الإسرائيليين المحتلين أنفسهم. ولكن كيف ذلك وقد صار"الدونية" عقيدة مفروضة ببطش السلطة وقمع الحكام وإغواء كهنة الثقافة والسياسة ورجال الدين المزيفين؟
هل استمعت إلى محمود عباس الذي يفترض أنه المسؤول الأول عن استعادة الحق الفلسطيني المسلوب، وهو يزايد على الجنرالات الصهاينة المتقاعدين، وينصّب نفسَه متحدّثًا باسم وداعتهم وإنسانيتهم، حتى شعروا بالحرج، فخرجوا يكذبون حديثه عن أنهم رافضون صفقة القرن، ومعارضون للاستيطان، ومنحازون للحق الفلسطيني؟
هل شاهدت هذا الرضا السعودي الرسمي على تحرّكات وحركات المواطن السعودي الليكودي المخلص (بتعبير بنيامين نتنياهو)، وهو يتوجّه بكل الشكر والعرفان لإشادة من وصفه "فخامة رئيس حكومة دولة إسرائيل العزيزة" به، حين أعلن أن الليكود أصبح يمتلك فرعًا في السعودية، وأن هناك مفاجآت مع الدول العربية في الطريق؟
على أن الدونية ليست حكرًا على حكامٍ ينبطحون أمام إسرائيل، ويتجرّدون من ثيابهم الأصلية، ويرتدون قبعات الغرب، ومايوهاته، كل يوم لإثبات أنهم الأكثر استنارة، ويبلغون عن إخوتهم الأعداء، ويتهمونهم بأنهم متخلفون وداعمون للإرهاب.
في معسكر الدونية العربية سياسيون يتعرّون أمام حكام وقطاعات شعبية تمارس الدونية ذاتها، ليثبتوا أنهم معارضون لكن دولتيون، متفتحون حريصون على المؤسسات، بينما أقرانهم ظلاميون داعشيون، هدّامون محرّضون على الإرهاب.
وهناك أيضًا مشايخ وكهّان ووعاظ يقتاتون على أكل لحوم كل ما يمتّ إلى الإسلام السياسي بصلة، ثم يعرضون أنفسهم عمالةً رخيصةً على وحوش اليهودية السياسية.. ومنهم من يحوّل النص الديني إلى خادم للاستبداد والتفاهة، مثل ذلك الذي يوصف بأنه مفتي مصر، الذي لم يشغله من الدين الإسلامي سوى أنه ينهى عن مشاهدة المسلسلات التركية، ويشجّع على الاحتفال بالفلانتاين.
باختصار، الكل، حكامًا ونخبًا، مشغولون طوال الوقت بتقديم مسوّغات الحصول على شهادات حسن السير والسلوك من أوغادٍ وقتلة، هم الإرهاب ذاته، وهم أصحاب براءات الاختراع، وحقوق الرعاية، لداعش اليوم، وكل دواعش الماضي والمستقبل.
وفي هذه الأجواء الدونية الرائعة، من الطبيعي تكون قضية "الزعيم أبو مازن" المحورية والوحيدة هي الاحتفاظ بوظيفته عاملًا في "مصنع السلام الإسرائيلي"، باحثًا عن واسطة صهيونية يواجه بها غضبة سفير الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة، وهو يهدّده قائلًا" عباس لم يعد مؤهلًا ليكون شريكًا في عملية السلام"، وهذا بالطبع كذب وافتراء، ذلك أن تل أبيب لن تجد أفضل من عباس "شريكًا مؤهلًا"، والأقرب إلى الدقة أنه لم يعد مؤهلًا ليكون شريكًا في مشروع مقاومة وتحرّر وطني .. تلك هي الحقيقة المؤلمة للأسف.
والوضع كذلك، أزعم أنه قبل التفكير في تحرير الأرض العربية من الاحتلال، من الواجب أن يتحرّر الوجدان العربي من تلك الدونية المفرطة، المفروضة عليه قسرًا من أنظمة عربية سحقت حرية شعوبها، بزعم أنها تخوض معركة التحرير، وأنها ستلقي إسرائيل في البحر، وها هي المحصلة بعد عقود: الكل يخطب ود إسرائيل، ويتوسل إليها ألا تلقيه في البحر.