متعة الوقوف على طلل الحكاية
طلل محبّة، أو طلل مساحة كبيرة كانت تسمّى "أرض الشواني"، ويحط فيها اليمام ونحن بالقرب منه ننصب الفخاخ. أو طلل سيارةٍ قديمةٍ جاء بها العمدة في العشرينيات من القرن الماضى في باخرة، وأصبحت الآن مركونةً أسفل برج تهدّم، وقد كان من عقود برجا للحمام، بعدما هجّ الحمام منه وقسّم الورثة أرض الحديقة وأرض القصر فيما بينهم، وقد صار مكان باب القصر ورشة للحام الكاوتش وصبيّ يغني على بابها موالا عن "علي معلول"، فضحكت على سخرية الأيام، خصوصا وأن حفيد العمدة صاحب القصر القديم بعدما شابت نواصيه يعمل الآن مأذونا في قرية مجاورة. أو طلل حكاية كانت تحكى في "نواحي دمشير"، عن صاحب "كوبانية جاز" جاء في زواجه المطرب الراحل، عبد العزيز محمود، وغنّى له في الفرح أغنية "منديل الحلو"، وبعد ما رقص العريس بالعصا مع الأغنية تحت شجرة "دقن الباشا" وضع في أصبعي المطرب عبد العزيز محمود خاتميْن من الذهب ظلّت تحكى عنهما دمشير ونواحيها سنوات. وبعد ما كبر العريس وأنجب الأولاد والبنات، كان يزور المطرب عبد العزيز محمود في مقهى أفرنجي شهير في وسط القاهرة بعد ما كبر وتهدّل لحم وجهه في خدّيه وتحت ذقنه وراحت أضواء الشهرة عنه تماما، وكان يتأمل الناس، وهي ماشية أمام زجاج المقهى من دون أن تتعرّف إليه.
طلل خفراء ببنادقهم في أيام الملك فؤاد بزيّهم الرسمي بجوار "معدية الشيخ خالد"، وهم يطلقون الرصاص احتفالا بقدوم مولد الشيخ خالد الكبير من فوق أحجار المعديّة، قبل أن ينسى الناس حكايات الأولياء، وذلك المنديل الأبيض الذي كان يفترشه الشيخ خالد الكبير فوق ماء البحر من الشرق، ويعبر إلى الغرب صباحا مع عين الشمس التي تحبو فوق أحجار المعديّة من شرق، وفي المغرب يعود ثانية فوق المنديل نفسه من "معديّة غرب"، بلا مركب ولا رفّاص، كي يعود إلى الجبل، مناديا أحبابة في خلوته.
كان ذلك كله قبل أن تتحوّل "بني خالد"، إلى "محاجر بني خالد"، ويصير الأولياء ضيوفا على موائد أعضاء مجلس الشعب أو البرلمان، كي يباركوا الأعضاء الذين دفعوا الملايين، نظير نيل المقعد، ويضمن أحفاد المشايخ أيضا وظيفة حكومية هنا أو هناك في المحاجر أو مصانع الأسمنت في صمت وأدب. أو طلل "ترعة الجنّابية"، بعد ما جفّت تماما، وتم تقسيم أرضها في مزادات إدارة الحكم المحلي، وقد صارت أراضي الترعة أبوابا لمخازن السيراميك والأدوات الصحية، بعد ما فاز عقداء جيش وشرطة بالمعاش بأغلب تلك المزادات.
أو طلل الأرواح حينما تم مسخها شيئا فشيئا بعد العودة من الإعارتين بالسكري أو الفشل الكلوي أو الكبد أو الوحدة، فاختاروا المقهى والجريدة التي قلّ توزيعها تماما، بل ندر بيعها. وهناك، خلف ظهورهم، الأحفاد، وهم يطالبونهم ببقية المواريث، لشراء السيارات مثل الناس، بعد ما أصبح الأنسولين بديلا لهم عن الزاد، مع الحرمان من طعم القهوة بعدما تشابهت الأيام تماما، وقلّت حركتهم.
طلل "أبو قردان" بعد ما ندر ظهوره في الغيطان، وصارت البجعات البيض ضيوف المدينة وأكوامها، التي لا هي مدينة ولا هي قرية، تتجمّع فوق أكوام الزبالة لأكل بقايا خياشيم محلات الأسماك ومصارينها.
كيف صارت الحكاية باهتة، بلا لونٍ ولا طعم ولا رائحة، وتصدّرتها تلك الجرائم الرخيصة جدا، والتي تثير الخجل في الإعلام، وكأنه فعلٌ عمدي ومقصود، لتصغير شأن الناس، كأن يقتل عاطلٌ خالته، فلا يجد لديها سوى "68 جنيها فقط مع ختم القبض النحاسي"، قيقصّ قرطها البسيط من أذنيها بمقصّ، ويفرّ هاربا مع سائق توك توك، غرب البحر اليوسفي"؛ استبدال مروية أو حكاية بمروية أو حكاية أخرى تثير الخجل أو الصغار، فتكبُر مساحة العنف في المخيلة، ويعلو شأن التفاهة وتقلّ مساحات الجمال والمروءة معا، كي يكون كل شيءٍ جميل "كان"، مجرّد طلل، طلل نبكيه في ساعات الحسرة.
هل بات ذلك كله مقصودا وشبه مخطّط له، أم أنها طبائع الزمان في تبديل الأحوال والظروف والأوطان والخلق؟ أم أن الحكايات تختار دائما تلك المتعة الجميلة، كي تظلّ جميلةً وتحكى في بهاء الأثر حينما نقف على طلل حكايةٍ كانت وانتهت من زمن.