متعة المشاهدة: الاحتلال عارياً
الآن، وبعد قرار مجلس الأمن الذي يقضي بالوقف الفوري للحرب على غزّة، وبصرفِ النظر عن أنّ القرار، في نقاطٍ أخرى، لا يعبّر عن عدالةٍ حقيقية، فنحن أمام كيانٍ مسعورٍ يواصل إجرامه ضاربًا بالقانون الدولي والإنساني والاعتبارات الأخلاقية عرضَ الحائط.
وفي تفاصيل الصورة كذلك، وهذا هو الأهمّ في القرار وعملية التصويت عليه، أن يعيد تقسيم العالم قسمة أخلاقية، بحيث صار الانتصار لحقّ الشعب الفلسطيني في الحياة على أرضه انتصاراً للقيم الإنسانية وللأخلاق، بينما الانحياز للعدوان الصهيوني انحياز للظلم وللانحطاط الإنساني، إلى الحدِّ الذي جعل الولايات المتحدة، الشريك الأساسي والراعي الرسمي لما يرتكبه الاحتلال من جرائم، تشعر بالخجل، وتمتنع أوّل مرّة عن توفير الحماية له في مجلس الأمن.
منطوق هذا القرار، وعلى الرغم من أنّه بالقياس الأخلاقي أقلّ من منطوقِ قرار محكمة العدل الدولية قبل شهرين، فإنّه يُعدّ الصفعة الأقوى على وجه العصابة الإجرامية التي تعربد في فلسطين، مع الأخذ في الاعتبار أنّه لم يرق إلى مستوى إدانة المجرم وإنزال العقوبة اللازمة به، مكتفياً فقط بالمطالبة بوقف الجريمة، لكنه، في نهايةِ المطاف، قرار يُقيم الحجّة على دول عربية لا تزال تحتفظ بعلاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية بهذا الاحتلال ولا تقوى على اتخاذ قرار، هو الحدّ الأدنى من احترام الذات، بقطعِ أو تعليقِ علاقاتها به حتى يخضع للقانون الدولي.
ليس معقولاً أو أخلاقيّاً أن يظلّ النظام العربي على حاله من العجز، أو ادّعاء العجز، مكتفياً بالفرجة تارّةً على دماء تسيل وجثث تجرف ورجال يُهانون ونساء ينتهكن، من دون أن يصدر عنه موقفٌ جادٌّ وحقيقي سوى تصريحاتٍ أتفه من أن يعيرها أحدٌ اهتماماً، وتارةً أخرى يتابع المناوشات الكلامية بين واشنطن وتل أبيب، أو بين بايدن ونتنياهو، مصفقاً للأميركي أو معلناً ترحيبه الحار بقرار مجلس الأمن.
يوفّر قرار مجلس الأمن الفرصة لمن أراد غسل يديه من عار الاستحقاقات التطبيعية، ويسلك بوصفه شقيقاً لفلسطين، وليس مجرّد جار شرق أوسطي ملتزم بالرؤى الأميركية "المقدّسة" لهذه المنطقة. والحال كذلك، لا يعقل أن تبقى مصر الغارقة في سيول الدولارات التي تتساقط عليها فجأة من كلّ مكان، حريصةً على الاحتفاظ بعلاقاتها التجارية مع الكيان الصهيوني، وبشكل خاص في موضوع الغاز الطبيعي، الذي يستولي عليه الاحتلال من المياه الفلسطينية ويبيعه إلى مصر كي تتكسّب منه.
لا يعقل كذلك، في هذه اللحظة التي تبدو فيها إسرائيل عارية من أيّة قيمة أخلاقية أو قانونية، أن يظلّ الموقف المصري من الصراع طمأنه الكيان الصهيوني على تأمين الحدود كي لا يتعرّض الصهيوني للخطر، أو بحسب المصدر الذي تحدّث إلى "العربي الجديد" أمس، فإنّه "على الرغم من التأكيدات المصرية المتكرّرة بشأن ضبط الوضع الأمني على الحدود مع قطاع غزة، فإن الجانب الإسرائيلي يصرّ على بث تقارير استخبارية من وقت إلى آخر، بشأن وجود ثغرات تستغلها فصائل المقاومة لتهريب الأسلحة"، وأن "القاهرة من جانبها، ومن دون انتظار أي ملاحظات، تقوم بتشديد الإجراءات لمنع تهريب الأسلحة".
معيبٌ كذلك أن تكون الشكوى المصرية تنصب، فقط، على أنّ "الجانب الإسرائيلي رفض، خلال محادثات مع المسؤولين في القاهرة، تحديد موعد واضح لبداية توسيع العمليات العسكرية في رفح المكتظة بالنازحين".
لا يستقيم، بكلّ الاعتبارات، أن يصبح منتهى أمل القاهرة أن تُخطرها تل أبيب بموعد اجتياح رفح، وهي التي كانت تعدّ العدّة لمحاربة تركيا، لأنّ "سرت الليبية خطٌّ أحمر"، وكانت تتحدّى قبل أسابيع، وتظهر العين الحمراء، معلنةً "لن نسمح لأحد بتهديد أشقائنا، خاصة إذا طلبوا منّا التدخل"، وقبل أن يقودك خيالُك إلى الوجهة الخطأ، فالمقصود بلفظ الأشقّاء هنا الصومال وليس فلسطين.
ينسحب الأمر ذاته على الأردن، الذي يخرج شعبه العربي في تظاهراتٍ كلّ ليلة تُحاصر سفارة العدو وتطلب التطهّر من عارِ الجسر البرّي الذي ينقل البضائع إلى الاحتلال، فيكون الردّ عليها قمعاً أمنيًاً واعتقالات بالجملة.
لا يليق بالشقيقين الأقرب جغرافيًّا، والأكثر ارتباطًا بقضية فلسطين، أن يبقيا محتفظين بعلاقات دبلوماسية واقتصادية وتجارية دافئة مع احتلال يقف منبوذاً من العالم كلّه، وينشب مخالبه في جسد الشقيق، من دون أن يجرؤ على ردعه أحد.
افتحوا المعابر وادخلوا للأشقاء وأغلقوا قنوات الشراكة الحرام مع قتلتهم، هذا هو الحدّ الأدنى من المواقف المحترمة.