ما وراء لجنة العفو والحوار الوطني في مصر
أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في 11 سبتمبر/ أيلول 2021، عن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، ومعها عام 2022 "عاماً للمجتمع المدني"... وعلى غرار كلّ وعوده السابقة، ومنذ ذلك الوعد البروتوكولي، تردّت حالة حقوق الإنسان في بلاده التي تواجه أزمات اقتصادية مزعجة، قابلها التوسع في عقد مزيد من صفقات السلاح، وهي البدعة التي استند إليها الرئيس في علاقاته مع شركائه الأوروبيين منذ انقلاب 2013، حتى صارت قاعدة: الصمت على ممارساته مقابل مليارات السلاح.
ربما يتساءل بعضهم عن أسباب صحوته الإنسانية المفاجئة، ونشاطه الحقوقي اللافت ووعوده وإن كانت في الهواء، وهو الذي أغلق هذا الملف مراراً، وقضم ثم ابتلع مفتاحه. من الممكن أن تكون الأزمة الاقتصادية وقمة المناخ كلمتي السر في تغير نبرة الجنرال المشبعة بالقسوة والتهديد، وإن استبدلها بالليونة والمرونة في خطاباته الخارجية.
أعتقد أنّ ملفّ العفو الذي صعد إلى السطح فجأة في شهر رمضان الماضي يرتبط جذرياً بقمة المناخ، وإن كان العائد الذي قدّمه السيسي، عبر إفراجه عن العشرات، لا يتناسب، في أي حال، بما يعتقد أنّ القمة ستقدّمه له، بتبييض ملفه الحقوقي الأسود الداكن، وغسله وكيه وعرضه على غرار الأفلام الهوليودية في صورةٍ وهيئة جديدتين، وكأنّه لم يدمن القتل والانتهاك والكذب الصريح على مدار عقد، كما أنّه يمثل غطاءً جديداً للانتهاكات التي تمثل فلسفة للنظام ولدت معه، ولن تزول إلّا بزواله. وتفنّد صور المفرج عنهم، وقد غزا الشيب رؤوسهم وغيّر ملامحهم، أكاذيب الجمهورية الجديدة الغارقة في السلطوية والاستبداد، رغم أنّ آلافاً غير هؤلاء يقبعون في زنازين الموت منذ سنوات، بلا زيارة ولا رعاية، وقد انقطعت صلتهم بالعالم وكأنّهم أصحاب الكهف الذين خرجوا يوماً على عالم من دون العالم وبشر غير البشر.
رصد فريق "كوميتي فور جستس" ما يقارب 950 انتهاكاً ترافقت مع استمرار اعتقال المئات
بالتزامن مع مرور مائة يوم على قرار إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي والدعوة إلى ما يسمّى الحوار الوطني، أرسلت منظمات حقوقية قائمة ثانية تضم 536 حالة، وكانت القائمة الأولى قد أُرسلت في 23 مايو/ أيار الماضي، والرئيس الحالم في أوج نشاطه العاطفي والإنساني، وضمت 2418 حالة. في المقابل، توضح الأرقام أنّ عدد الذين جرى الإفراج عنهم خلال تلك الفترة يقارب 250 معتقلاً من بين 21 ألف معتقل تعسّفي على ذمة قضايا سياسية في أكثر من 50 مركز اعتقال على مستوى الجمهورية، فيما ارتكبت القوات الأمنية خطوات تصعيدية بحق المدنيين في مناطق مختلفة، مثل جزيرة الوراق، وهو ما ينسف فكرة العفو والحوار من الأساس، وهما اللذان يحتاجان لتهيئة الأوضاع، لا العمل الجدّي على تصعيدها.
من بين السجناء الذين أفرج عنهم عقب المبادرة، حسام مؤنس، بعدما استلم حمدين صبّاحي إذن السيسي في حفل الإفطار الرمضاني، في لقطة مصوّرة ذكّرت المصريين بأنّ محلَّل انتخابات 2014 ما زال حياً يرزق، وبعده أفرج عن يحيى حسين عبد الهادي، وعدد ضئيل من المعتقلين، بينهم هشام فؤاد، أحد معتقلي تنظيم الأمل (قضية مؤنس)، والفنان طارق النهري المتورّط في أحداث عنف، وقاسم أشرف قاسم، أحد أباطرة البلاك بلوك التي مهّدت الأجواء لأحداث 2013.
من جانب آخر، تشير الأرقام إلى ارتكاب القوات الأمنية مئات الانتهاكات داخل السجون ومراكز الاحتجاز خلال تلك الفترة، إذ رصد فريق "كوميتي فور جستس" ما يقارب 950 انتهاكاً ترافقت مع استمرار اعتقال المئات، كثيرون منهم من المتابعات الدورية الأسبوعية والشهرية، لتأكيد هيمنة الجهاز الأمني الشهير على المفرج عنهم، باعتبارهم أسرى له، خرجوا بإرادته، لكن لم يغادروا سلطته.
عدد الذين جرى الإفراج عنهم يقارب 250 معتقلاً ومسجوناً من بين 21 ألف معتقل تعسّفي على ذمة قضايا سياسية في أكثر من 50 مركز اعتقال
وقد أهالت لجنة العفو، في بيانها الأول، وهي تضع معاييرها للإفراج عن جميع المحتجزين بتهم سياسية أو بسبب قضايا الرأي، التراب على بيت العنكبوت الذي بناه السيسي طوال سنوات حكمه، على قاعدة عدم وجود معتقلين سياسيين لديه من الأساس. كما أنّ الإفراج عن قاسم وطارق النهري المحكوم بالمؤبد، الذي خفف إلى المشدد 15 عاماً في أحداث مجلس الوزراء وحرق المجمع العلمي في 2011، والمؤيّدين للنظام، أطاح المعايير التي تشدّدت في عدم الإفراج عن أي متهم في قضايا عنف!. وصرّح وزير العدل أيضاً بأن العفو الرئاسي لا ينطبق إلّا على المحكوم عليهم، في وقت تزامنت فيه الوعود الرئاسية مع إفراج النيابات عن العشرات، وبتنسيق لجنة العفو ودعاية المحامي طارق العوضي، ما أكّد عدم استقلاليتها، وأنّها تخضع، بالضرورة كما يدرك الجميع، للرئيس، تأتمر بتوجيهاته وتوقع على أحلامه ورؤاه، ما ألغى الشكوك حول غياب نظام العدالة، حيث أصبحت حقيقة مؤكّدة.
أعلن السيسي في خطابه الأول أنّ الاختلاف في الرأي لا يُفسد للوطن قضية، بعدها أكد استبعاد فصيل واحد، هو "الإخوان المسلمون". وعلى أثر ذلك، زعم ضياء رشوان، المنسق العام للحوار الوطني الذي عقدت أولى جلساته في 5 يوليو/ تموز الفائت، ويضم 19 عضواً، أنّ استبعاد جماعة الإخوان المسلمين من المشاركة في جلسات الحوار "مش بمزاج مجلس الأمناء ولكن بمزاج الشعب"، وكأنّ السيسي ينطق بلسان الشعب الذي يتجاوز عدد أفراده مائة مليون نسمة، في إحدى صور الشعبوية المقيتة.
وكشفت دعاوى العفو والحوار، على ضعفها من ناحية، أنّنا أمام مرحلة جديدة في التعامل مع ملف المنظمات الحقوقية والمدافعين عن حقوق الإنسان، فبعدما فشل النظام في تفتيت المجتمع الحقوقي بتقسيمه إلى منظماتٍ عاملة في الداخل وأخرى عاملة في الخارج، يحاول هذه المرّة وضع محسوبين على الحركة الحقوقية في واجهة أعمال الحوار الوطني ولجنة العفو كجزء من الديكور الأمني، وإسباغ نوع من الجدّية على ادّعاءاته وانتهاكاته الجسيمة، فعدد من هؤلاء كتب عدد تغريدات، عن الأمل والجدّية والبشرى، تفوق عدد من جرى الإفراج عنهم! كما أنّه ينشر طلبات ومناشدات الإفراج على حساباته على منصات التواصل الاجتماعي، بدلاً من أن يقدمها للأمنيين الذين يتولون الأمر. لكنّ المؤكد أنّ لجنة العفو أوصدت أبواباً كثيرة لمقاومة النظام حقوقياً بشكل حرفي، بعدما سقط كثيرون في دائرة الانتظار المغلفة بالأمل الكاذب، وذلك على الرغم من أنّ النظام أفرج بالفعل عن معتقلين سياسيين تحت وطأة الضغوط الخارجية. كما أنّ اللجنة غضّت الطرف عن استمرار سياسات التدوير، وإصدار أحكام جديدة بالإعدام، وبات الناشطون سابقاً من أعضائها مكبلّين بالصمت، بعدما امتلأت أفواههم بماء النظام العكر الذي لا يستطيعون بلعه أو لفظه. وقد رجحت، الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، 11 منظمة حقوقية ومعها عدد من النشطاء، بينهم ناعومي كلاين وبيل ماكيبين والنائبة عن حزب الخضر كارولين لوكاس، ومستشارون للبيت الأبيض، أنّ مؤتمر قمة المناخ Cop27 المقرّر انطلاقه في شرم الشيخ سوف يُستخدم لتبييض انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد، بحسب صحيفة "ذا غارديان"، وهذا مؤكّد. وأضافت أنّ المتظاهرين لن يستطيعوا التعبير عن حقهم في الاحتجاج. وأن استضافة مصر القمعية المؤتمر ستجعله غير فعال، فيما هناك ما لا يقل عن 65 ألف سجين سياسي، بمن فيهم المحامون والصحافيون والأكاديميون والنساء المؤثرات على وسائل التواصل الاجتماعي والفنانات.
فشل النظام في تفتيت المجتمع الحقوقي بتقسيمه إلى منظماتٍ عاملة في الداخل وأخرى عاملة في الخارج
وقد أفادت الناشطة سناء سيف، شقيقة المعتقل علاء عبد الفتاح، بأنّ أعضاء الحركة الدولية للعدالة المناخية لن يتمكّنوا من مقابلة نشطاء أو شركاء محليين "لأنهم إما في السجن أو سيتم منعهم من العبور إلى سيناء للحضور!"، واعتبرت المؤتمر "فرصة لدفع نظام السيسي إلى إطلاق سراح آلاف من سجناء الرأي المحتجزين في زنازينه"، لكنّ المؤشرات بدأت في الظهور مبكراً برفض الموافقة على حضور منظمات بعينها المؤتمر، بينما تجاوز علاء عبد الفتاح 150 يوماً في إضرابه عن الطعام، من دون أي تجاوب مع مطالبه.
سواء ارتبط ملف العفو بهذا أو ذاك، كتبتُ، في سياق عدة مقالات سابقة، أنّ سياسات القمع لم توفر للشعب طعامه ولا استقراره، وأنّ السيسي ظل يقتات على رهانات القمع بموازاة ظاهرة الإرهاب، ومقابل صفقات السلاح، وتأصيل الكراهية، وبث الخلافات المجتمعية واستدعائها، رأسمالاً وحيداً لضمان بقائه!
بات اليوم غارقاً في مستنقع الديون ومختنقاً بالحصاد المرّ لفشله وادّعاءاته، ومن السهل بالعمل الجدي وتضافر الجهود وتوحيدها إجباره على تبييض ملف الاعتقال السياسي وتقليم مخالبه، وهي خطوة أولى على طريق وضع حد لجموحه وتهوّره، فباب مقاومة الاستبداد المغلق منذ سنوات سيفتح حتماً على مصراعيه، وسيتجاوز عوائق لجنة العفو والحوار التي لم تكن يوماً في صالح الضحايا، وإنما مع الجناة.