ما هو مصير حركة فتح؟
تعرّضت حركة التحرير الفلسطيني (فتح) في تاريخها لانقسامات ونزاعات داخلية، انتهى بعضها بمواجهات دموية كما حدث عام 1983، لكن ما نشهده الآن مؤشرات انهيار داخلي، سارعت الخلافات بشأن انتخابات المجلس التشريعي والرئاسة بدفعه إلى السطح، فهل نشهد نهاية الحركة التي كانت العمود الفقري لحركة التحرّر الفلسطينية؟ وماذا تبقى أصلا من فكر وخطاب تحرّرين داخل الحركة؟
يستمتع بعضهم بمشاهدة الحركة التي فقدوا الثقة بها، على ضوء تجارب شخصية وخيبة أمل، وهي تمارس ما تبدو عملية تدمير ذاتي، لكن الدمار لن يطاول الحركة فحسب، بل له تداعيات كبيرة على المجتمع الفلسطيني، خصوصا في الداخل، فنحن نتحدّث عن دمار يجري في فراغ يخلو من نهوض تحرّك تحرّري جماعي ومنظم، في الداخل وفي الخارج.
لا أدّعي معرفة الأجوبة، لكنها محاوله لفهم ما يحدث في مساهمةٍ في نقاشٍ بدأ يأخذ حيزا يجب أن يتسع في الساحتين، الفلسطينية والعربية، عن مستقبل حركة التحرّر الفلسطينية. ما نشهده هو تراكم أخطاء وخطايا وابتعاد عن الخطاب التحرّري، وبالتالي عن رؤية تحرّرية، خصوصا منذ توقيع اتفاقية إعلان المبادئ بين منظمة التحرير وإسرائيل، المعروفة باتفاقية أوسلو، عام 1993، والتي رهنت الفلسطينيين ومنظمة التحرير ومؤسساتها لشروط ما تسمّى "عملية سلام"، أدت إلى تجميل الغطاء للجرائم الإسرائيلية.
في غياب المشروع الوطني الموحد، والتأجيل المتكرّر لانتخابات المجلس التشريعي، وتضييق حلقة صانعي القرار في داخل الأطر، وفي حركة فتح تحديدا، أسسٌ لبيئة طاردة وإقصائية
كانت هناك فرصة بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، وانخراط الفلسطينيين في حركة فتح، بما في ذلك الأجهزة الأمنية، فيها، لمراجعة النفس والبحث عن استراتيجية تعيد منظمة التحرير إلى الواجهة، وإصلاح مؤسساتها. ولكن، بدلا من ذلك، اتخذت القيادة منحى محاولة إثبات جدارتها واستحقاقها دورها في عملية مفاوضات عبثية ومضرّة للشعب الفلسطيني، كأنها كانت في انتظار خلاصٍ يأتي على شكل مشروع أميركي مؤجّل. والغريب أن هناك قياداتٍ لم تفقد الأمل في العملية المهزلة، وإن وهم "أوسلو" لم يسقط في "كامب ديفيد" 2001، حين أشاح الأميركيون والإسرائيليون اللثام عن المحطة النهائية للمفاوضات، وهي كيانٌ فلسطينيٌّ ممسوخ ومعزول من دون سيادة على الأرض وما تحتها ولا الأجواء فوقها، مقابله قبول فلسطيني بمعاهدة إنهاء النزاع والمطالب والحقوق التاريخية والوطنية الفلسطينية، أي نهاية كل الحقوق الفلسطينية، وفي مقدّمتها حق عودة اللاجئين إلى ديارهم.
أما درس اغتيال إسرائيل الرئيس ياسر عرفات الذي رفض عرض كامب دايفيد، فلم تتعلم منه أغلب القيادات الفلسطينية أو كلها، إلا الخطاب الدوني، بحجّة إثبات أن الشعب الفلسطيني "حضاري" و"مهذّب" ولذا "يستحق دولة". ليس لأنها جزءٌ من ممارسة الشعب الفلسطيني حق تقرير المصير في وطنه التاريخي، بل "مكافأة" على حسن السلوك، وذلك يعني إهمال المناضلين ومحاولة تهميش أدوارهم، إضافة إلى أن الأغلبية انتهت إلى تحقيق مصالحها الذاتية من توفير لقمة عيشها أو تحقيق دور لها في مناصب قيادية، والاستمتاع بالامتيازات وأسباب الرفاهية.
في غياب المشروع الوطني الموحد، والتأجيل المتكرّر لانتخابات المجلس التشريعي، وتضييق حلقة صانعي القرار في داخل الأطر، وفي حركة فتح تحديدا، أسسٌ لبيئة طاردة وإقصائية. بقرارات قيادية، أغلقت أبواب الدخول لشخصيات تاريخية وجديدة من حركة فتح من الأجيال الثلاثة الأولى، وكما عبّر عنها صديق من "فتح" إن كل شخص عمره 60 أو أقل أصبح يشعر بأنه مستثنى وليس له دور. ولا مجال لكسر حلقة اللجنة المركزية وبطانة الرئيس. ولذا نجد تمرّدا متزايدا ضد سلطة الرئيس محمود عباس واللجنة المركزية لحركة فتح من شخصيات قيادية، بوزن ناصر القدوة، لم يجد تجاوبا مع طرحٍ يقدّمه أو محاولة لتوسيع دائرة صنع القرار والمشاركة.
لا مجال لكسر حلقة اللجنة المركزية وبطانة الرئيس. ولذا نجد تمرّدا متزايدا ضد سلطة الرئيس محمود عباس واللجنة المركزية لحركة فتح
زاد الإعلان عن إجراء الانتخابات التشريعية الخلافات حدّة، فالرئيس محمود عباس ينظر إلى كل من يخالفه تهديدا له، ليس بالضرورة على الرئاسة، بل على حلقة المتنفذين الضيقة، والذين لهم مصلحة ببقائه رئيسا لاستمرار نفوذهم وامتيازاتهم. وبالتالي، فإن شخصية مثل الأسير مروان البرغوثي تمثل تهديدا ليس فقط لسلطويتهم، بل لراحتهم أيضاً، فقبول ترشيح أسير محكوم بمؤبدات نتيجة دوره في الانتفاضة الثانية، سيحرجهم أمام الولايات المتحدة التي تعتبر الأسرى "إرهابيين وقتلى"، بدلا من أن يجدوا هذا الترشح فرصة للعودة إلى مقاومة المحاولات الأميركية لتجريم الأسرى، وفرصة لاستعادة الخطاب التحرّري الذي هجروه.
ودخلت شخصية فتحاوية لها تاريخها في المنظمة وحركة فتح، نبيل عمرو، وكان في فترة من أهم المقرّبين للرئيس عباس، إلى ساحة المنافسة، وأعن عن عزمه تشكيل قائمة انتخابية خاصة به، وهو شخصية لا يستهان بها، من حيث قدرته على قولبة موقفه السياسي ببلاغة، في تحرّك يُقصد به تحدّي سلطة عباس وإضعافه. ولكن ما فاجأ كثيرين ردة الفعل الحادّة للجنة المركزية لحركة فتح بفصل ناصر القدوة، ابن شقيقة ياسر عرفات، والدبلوماسي المتمرّس، والمتحدّث المقنع الذي استطاع، خلال السنوات الأخيرة، أن يجمع مثقفين ونشطاء وقيادات في المجتمع المدني ويجذبهم. وتعتبره الفصائل الفلسطينية الأكثر رصانة وانفتاحا في "فتح". بعد فشل محاولاته التفاهم مع اللجنة المركزية على تشكيلة قائمة "فتح"، أعلن عزمه تشكيل قائمةً تضم أسماء من "فتح" وخارجها. وللقدوة حضور قوي منافس قوي لعباس على موقع الرئاسة أو قيادة "فتح"، وعلاقاته العربية والدولية تهدّد المتنفذين الحاليين بحسابات المصالح الضيقة، وقد استفز عباس بإعلانه عن دعم ترشح الأسير مروان البرغوثي للرئاسة، يتمتع بشعبيةٍ واسعة، تجعل منها مركز قوة يهدّد بتغيير تركيبة السلطة و"فتح" القيادية. وفي الوقت نفسه، خسر القدوة دعم شباب وأوساط في "فتح" رفع بعضهم شعار وحدة الحركة وتعزيز هذه الوحدة، من دون القول إن عباس واللجنة المركزية هما المسؤولان عن شرذمة حركة فتح. وقد لا يستوعب مؤيدو عباس أن كثيرين من خارج الأطر الفتحاوية وداخلها يؤيدون القدوة لمجرّد عدم انصياعه لعباس تعبيراً عن فقدان ثقتهم واحترامهم الرئاسة واللجنة المركزية.
قرار طرد القدوة ليس موجها له وحده، بل إلى الجميع، لإسكات الأصوات المعارضة داخل التنظيم
ولكن قرار طرد القدوة ليس موجها له وحده، بل إلى الجميع، لإسكات الأصوات المعارضة داخل التنظيم، فاللجنة المركزية تخدع نفسها، إذا ظنت أن تأييد الكوادر عن قناعة. وفيما يحدث هذا كله، يتحرّك مؤيدو المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، بقوة في قطاع غزة، بدعم معلن من الإمارات التي أمدت حركته بأجهزة تنفس وكميات من لقاحات كوفيد 19 لتوزيعها في القطاع المحاصر، ومستغلاً الفراغ في "فتح" في غزة، وغضب شباب الحركة على إهمال عباس لهم.
هل هي نهاية حركة فتح، أو هي بداية لحركة جديدة؟ المحزن في المشهد كله أنك لا تلحظ مكانا، أقله إلى كتابة هذه السطور، (وإن فهمت أن البرغوثي يعد رؤية برنامج سياسي) لنقاش جدّي أو خلافي في الداخل، وبشكل واسع، بشأن المشروع الوطني الفلسطيني، وهذا أخطر من انهيار "فتح".