ما هو أبعد وأخطر في أزمة المنطاد الصيني
يخيّل لمن يتابع النقاش الجاري في الولايات المتحدة بشأن المنطاد الصيني الذي حلّق أياماً في المجال الجوي الأميركي، قبل إسقاطه بصاروخ يوم السبت الماضي، والشكوى المريرة من انتهاك السيادة الأميركية وقواعد القانون الدولي، أن واشنطن تلتزم تلك القواعد وتحترم سيادة الدول. طبعاً، الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك، ويكفي التذكير هنا بالفضيحة المدوّية، التي كُشِفَ عنها عام 2013، كيف أن الولايات المتحدة كانت تتجسّس على أقرب حلفائها الأوروبيين وعلى هواتف زعماء دولها، ومن ضمنهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ليس هذا فحسب، فقضية المنطاد الصيني، الذي تقول واشنطن إنه للتجسّس، فيما تقول بكين إنه كان مخصّصاً للرصد الجوي قبل أن يضلّ طريقه بعد أن فقدت السيطرة عليه، جاءت في خضمّ إعلان الولايات المتحدة والفيليبين اتفاقاً يسمح للجيش الأميركي أن يستخدم أربع قواعد عسكرية جديدة في البلاد، بالإضافة إلى خمس أخرى قائمة من قبل، وهو ما يعزّز من الوجود الأميركي في جنوب شرق آسيا. ويفصل الفيليبين عن تايوان، التي تعتبرها الصين جزءاً من أراضيها وتسعى لضمّها إليها، ولو بالقوة العسكرية، مضيق بحري ضيق. وبالإضافة إلى الفيليبين، للولايات المتحدة وجود عسكري كبير في اليابان، هو الأكبر خارج الأراضي الأميركية، بأكثر من خمسين ألف جندي، فضلاً عن وجود عسكري كبير آخر في كوريا الجنوبية. بمعنى أن الولايات المتحدة تطوّق الصين وتسعى لكبح جماح صعودها بوصفها قطباً عالمياً منافساً لها، وهي تسعى لتقليص نفوذها وإضعافها في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، وهذا هو الهدف الأساس لاتفاقية "أوكوس" الأمنية مع بريطانيا وأستراليا، وكذلك "المجموعة الرباعية"، التي تضم كلاً من الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان.
لا يسعى ما سبق لتبرير التجسّس الصيني على الولايات المتحدة أو غيرها، وإنما هي من باب التذكير بأن المسألة لا تتعلق بانتهاك سيادة وخرق لقواعد القانون الدولي، وكأن الأميركيين لا يتجسّسون هم أيضاً على غيرهم من الدول، بما فيها الصين، وانتهاك سيادتهم وخرق قواعد القانون الدولي.
ما نحن بصدده هنا تنافسٌ محمومٌ بين دولتين عظميين، تعلن كل منهما الأخرى التحدّي الجيوسياسي الأبرز لها، بل وتتهيأ لحربٍ مدمّرة معها لا يُستبعد وقوعها. اللافت، أنه قبل أيام قليلة من إعلان الاستخبارات العسكرية الأميركية وجود المنطاد في المجال الجوي للبلاد، كان الجنرال في سلاح الجو الأميركي، مايك مينيهان، يرسل مذكّرةً إلى من يعملون تحت إمرته يبلغهم فيها بأن "حدسه" يخبره أن الولايات المتحدة ستخوض حرباً مع الصين عام 2025، وطالبهم بالاستعداد لذلك. مينيهان هذا جنرالٌ بأربعة نجوم، وهي الرتبة العسكرية الأعلى أميركياً.
هذا القرن سيكون قرن الحرب الأميركية – الصينية الباردة، وقد تتحوّل إلى حرب عالمية ثالثة مدمّرة إن استمرّ متطرّفو الطرفين بالنفخ في كيرها
ومع أن المنطاد يعدّ طريقة بدائية في التجسّس، إذا ما قورن ذلك بالأقمار الصناعية والجواسيس وقرصنة الأسرار العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية، وهي الأمور التي تُمارسها الدولتان بحقّ الطرف الآخر وغيره، فإن هذا لا يقلل من حجم التحدّي الذي شكّله، أولاً، للكبرياء الأميركي عبر انتهاك سيادة الدولة الأعظم. وثانياً، لما يعنيه ذلك من أن "التهديد الصيني" للأراضي الأميركية لم يعد مجرّد تكهنات نظرية بعيدة. الأهم من ذلك كيفية التوظيف العسكري الأميركي هذه الأزمة، إذ ثمَّة تساؤلات كثيرة مثارة عن انتظار وزارة الدفاع سبعة أيام لإسقاط المنطاد منذ رُصد أول مرة في أجواء ولاية ألاسكا غير المتصلة جغرافياً بالبرّ الأميركي الرئيسي (mainland)، في 28 يناير/ كانون الثاني الماضي. زعمت وزارة الدفاع بداية أنها لم تكن متأكّدة من أن المنطاد سيعبر إلى البرّ الرئيسي. ثمَّ إن إسقاطه فوق البرّ الرئيسي كان سيشكّل خطراً على السكان على الأرض. وبعد ذلك أنها أرادت تعقّب مساره، وكيف يعمل لجني معلومات استخباراتية عنه، خصوصاً مع تقليلها من حجم التهديد الذي شكّله، قبل أن تتخذ قراراً بإسقاطه في ساحل ولاية كارولاينا الجنوبية، في الرابع من شهر شباط/ فبراير الجاري، تحت وابل من الضغوط السياسية، وتحديداً من الجمهوريين. وفي الحقيقة، لا يمكن استبعاد أن المؤسسة العسكرية الأميركية أرادت من هذه الدراما السياسية أن تبتزّ مزيداً من المخصّصات المالية من الكونغرس، التي تطالب بها منذ سنوات، من أجل التصدّي لما تصفه بالخطر الصيني العسكري الصاعد.
بغضّ النظر عن حقيقة المنطاد والدوافع الصينية من ورائه، وما إذا كانت بكين فعلاً فقدت السيطرة عليه، كما تزعم، وبغضّ النظر عن الحسابات الأميركية من التصعيد في هذه القضية، فإن أمراً واحداً يبقى ثابتاً، أن هذا القرن سيكون قرن الحرب الأميركية – الصينية الباردة، وقد تتحوّل إلى حربٍ عالميةٍ ثالثة مدمّرة إن استمرّ متطرّفو الطرفين بالنفخ في كيرها.