ما كشفه الطوفان

16 أكتوبر 2023

(عبد عابدي)

+ الخط -

الطوفان ذو طبيعة كشفية، فلا يجرى الحديث عنه إلّا في حالة الفصل الكامل بين زمنين، فما قبله ليس كما بعده، وفي كل شيء، سواء في الكلّيات أو التفاصيل. وهذا ما يعلمنا إياه التاريخ. لذلك، اختيار هذا الاسم (طوفان) على الإنجاز الحربي للمقاومة الفلسطينية أخيرا وما كبّدته من خسائر ورعب واهتزاز في جسم الجيش الإسرائيلي وكيانه، يشتمل على بلاغته المدروسة. وتذهب الدلالة إلى المعنى المباشر الملخّص في عبارة "لن يكون ما بعد هذا الطوفان كالذي قبله"، فلا بد من استحضار اللغة ودلالتها في الحروب، بل كأنما جاءت الكلمة ضمن الاستعداد المدروس لفعل المقاومة الفلسطينية وهي تسطّر هذا الفصل الحاسم في تجرتبها النضالية ضد عدوّ شرس، تحسب له كل الدول حساب القوة، كشفت المقاومة الفلسطينية، على محدوديّتها، الغطاء عن ضعفه، وضعضعت أوهامه ومزّقت صكوك أسطورته؛ هزّت باختصار ثقته الفائضة بنفسه.
ثمّة، إذا، بدايةٌ لحياة جديدة مختلفة بعد الطوفان الذي شُبّه أيضا بالمعجزة، وسال عنه حبر كثير. وذهبت تحليلاتٌ إلى أن ما فعلته المقاومة الفلسطينية، المعزولة والمحاصرة، عصيٌّ على الاستيعاب، ويشبه صدمة عالمية، أو طوفانا حقيقيا وليس بلاغيا فقط، وكأنه خلاصة أجيال من الظلم والاستعباد الكولونيالي والتهميش والتهجير والظلم الأسود. 
دروس ونتائج كثيرة يمكن الخروج بها من "طوفان الأقصى" الذي لم يخلُص إلى نتائجه النهائية بعد، ومنها أنّ لا حدّ لإرادة الشعوب، الحيوانات وحدها من تخضع وتستكين (وهنا رد على وزير الدفاع الاسرائيلي الذي شبّه المقاومين بالحيوانات)، وحدها التي ترضى بالحصار وتستمرئه، أما أصحاب هذه الروح القتالية فهم خارقون، ويفترض أن يوصفوا هكذا، حتى من طرف العدو نفسه، لو كان هذا العدو يعرف لغة الحروب ويقدّرها جيدا، ولكن يبدو أنه دخل في دوخة الصدمة. 
هناك درسٌ مهمٌّ كذلك كُشف عنه بسبب هذا الطوفان، وأظنه كان معلوما، ولكن ليس بهذا الوضوح الذي نراه حالياً، وهو أن الغرب فقد وزنه الأخلاقي، أصبح في العمق بلا ضمير، وهو لا يساوي فقط بين الجلاد والضحية، إنما أيضا يحمّل الضحية كل شيء، بمن فيهم أولئك المدنيون القابعون بين جدران الحصار في غزّة. لم يمارس ضغطاً على إسرائيل حتى من الجانب الإنساني، إذا استثنينا بعض الإشارات الخجولة من بعض الدول الأوروبية، بينما الغالب هو مساعدة القوي بأسلحة فتّاكة جديدة (كأن السلاح هو ما كان ينقصه). مساعدة الغاضب بما يُشعل غضبَه أكثر، والغاضب هنا إسرائيل، لكن يجب أن نعرف أن إسرائيل هي في العمق غاضبة من نفسها، لكنها تقوم بترحيل شحنة الغضب إلى غزّة بكل من فيها من بشر وحجر. 
درس آخر، أو عبرة أخرى كشفتها المقاومة الفلسطينية عبر طوفانها، وهي التعاطف العربي الكبير. يمكن الحديث هنا عن تظاهراتٍ مليونيةٍ، ولكنها مقتصرة على قنوات التواصل الاجتماعي، وتلك الفرحة التي لا توصَف بما حقّقته المقاومة التي بدت وكأنها تجيب عن أسئلة شعوب الدول العربية من الخليج إلى المحيط وطموحها لأن تُنصف القضية الفلسطينية. رغم أن إسرائيل جاهدت لأن تخلط سريعا مشاعر الفرح بالحزن، عن طريق القصف العشوائي. 
ولكنها ليست المرّة الأولى التي تُقصف فيها غزّة بهذه الدموية، وإنْ كان القصف يتفاوَت في حدّته بين هجمةٍ وأخرى، وفي كل الهجمات كان قاتلا لأبرياء وأطفال، تتفاوت الحدّة فقط بين هجمةٍ وأخرى، حتى أصبح المواطن العربي، وقبله الفلسطيني طبعا، ينتظر سنويا وصلة الحزن هذه، ولكنها، هذه المرّة بدت مسبوقة بوصلة فرح ومفاجأة لا بد منها، لكي تعيد إلى إسرائيل قبل العالم بديهية أن التمادي في القتل والتنكيل والحصار لن يكون بلا حدود، وأن الذين تحت الحصار بشرٌ لا بد لإرادتهم ومخيّلتهم أن تبتكر آيات خلاصها.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي