إسماعيل كاداريه والنقد الموارب

08 يوليو 2024

ماكرون يتحدث إلى الروائي كاداريه في حفل منحه وساما فرنسي في تيرانا (16/10/2023فرانس برس)

+ الخط -

"أخبروني، هل بمقدور أيّ منكم أن يذكر لي اسم وزير الثقافة في عصر شكسبير؟"... إسماعيل كاداريه من رواية "العاشق والطاغية".
الكاتب الراحل أخيراً (1 يوليو/ تموز 2024)، إسماعيل كاداريه، يُعدّ الاسم الأشهر في بلده ألبانيا، التي ظلّت معزولة. بل يمكن القول إنّه حتّى رئيسها الشيوعي أنور خوجة لم نعرفه إلّا من خلال علاقة الودّ بينهما. كما كنّا قديماً لم نعرف سيف الدولة  على إنجازاته وثقافته الأدبية العالية كما يسردها الثعالبي في "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر"، إلّا من خلال أبي الطيب المُتنبّي.
توارب روايات كاداريه الواقع حين تُقدّم مادّتها الحكائية ملتبسةً بالتاريخي والأسطوري. لم يكن أيَّ تاريخ، إنّما تاريخ بلده ألبانيا، وخصوصاً في الفترة العثمانية. النقد الموارب للواقع المُعاش، ولكن ليس من طريق التعريض به مباشرة، إنّما من طريق الاستعانة بأحداث التاريخ والأسطورة. انتهى الحكم العثماني من القرن الرابع عشر إلى بدايات القرن العشرين، بعد ضعف الدولة العثمانية، إلى تآكل أراضٍ كثيرةٍ من ألبانيا، بعضها صار لصالح اليونان، كما خسرت ألبانيا الجبل الأسود وكوسوفو.
مثلاً، في رواية "قصّة مدينة الحجر"، يبتكر السارد مدينةً مُتخيّلة، ويبني عليها واقعاً مُعاشاً، وبذلك يستفيد من مفردات الحياة القديمة، ولكن من دون أن يحدّدها تاريخياً، إنّما يفتحها زمنياً على مختلف الممكنات المعيشيّة. ربّما لأنّه مدركٌ أنّه يكتب فنّاً وليس تاريخاً. ورواية "من أعاد دورنتين" تبدأ بمُحقّق ومساعده يعيشان في عصرنا، ويصوّران واقعاً حيّاً، ولكن من خلال خرافةٍ تتعلّق بفتاة يأتي بها أخوها الميت من بلدتها البعيدة حيث تزوّجت، لكي تزور أمّها بعد انقطاعٍ سنيناً. لتُصاب الفتاة بالصدمة حين تعلم أنّ جميع إخوتها التسعة قد قتلوا في غيابها، والأمُّ تصاب بصدمةٍ مضاعفةٍ حين تعلم أنّ الذي عاد بها إلى البيت على ظهر حصان هو أخوها الميت، وبذلك تكون الفتاة قد عادت إلى بيت أمّها برفقة شبح. وتسرد رواية "الحصار" (أو "القلعة"، في ترجمة أخرى) تسرد جانباً من واقع تاريخي يتعلّق بحصار الجيش العثماني إحدى القلاع الألبانية، ولكنّ الكاتب يقلب النتيجة. ينتصر الجيش العثماني في الواقع، وفي الرواية يكون النصر للألبان. وربّما فعل كاداريه ذلك لكي يثبت أنّه لا يكتب التاريخ حين يذكر خلافَ ما هو مُوثّق ومُسطّر في متونه، أو كأنّه أراد أن يكتب تاريخاً جديداً لبلده يدسّ من خلاله مجموعة من الأحلام والرؤى والانطباعات المعاصرة التي لم يَبُح بها، أو بَاح بها بصورةٍ مُوارِبة، وذلك حتّى لا يستفزّ، وهو الكاتب المدلّل وعضو مجلس الشعب في حكومة البلشفي أنور خوجة، سلطة وأمن بلاده. ولكنّ الواقع يتجلّى باستخدام التجارب الإنسانية لتعبّر عن نفسها، وتكشف أحوالها، من دون إصدار أحكام مباشرة واضحة. لذلك يمكن القول إنّه استخدم التاريخ والأسطورة حلبةً للعب السردي، مُبتعداً عن سجنَي التاريخ والأسطورة في قالبهما التعريفي، إنّما بتحريكهما في أرض الفنّ وساحات المهارة.
ويتجلّى الواقع المعاش، بأحابيله، في رواية "قصر الأحلام". الفساد الإداري والمحسوبية قُدّما في صورة مُوارِبَة يمكن أن يتفاعل معها أيّ قارئ في أيّ مكان. ورواية "الجسر" يمكن أن تُذكّر أيضاً بالكاتب اليوغسلافي إيفو أندريتش، صاحب "جسر على نهر درينا"، فأجواء التأثّر واضحة، خصوصاً أنّ  الروايتَين تحاكيان الفترة العثمانية وتنتقدانها. وإن كان كاداريه يزيحنا أكثر إلى البعد الرمزي حين يوارب الواقعُ التاريخَ، ولا يلتزم بحدوده كما في معظم رواياته. وثمّة رواية لكاداريه غير معروفة قياساً بباقي رواياته، وقد كتبها بعد رحيل الرئيس أنور خوجة، حملت عنوان "العاشق والطاغية"، يمكن أن تُوحي مباشرة بأنّه يُصفّي حساباً مع فترة سابقة، رواية قصيرة (أو قصّة طويلة) جاءت في أقلّ من 70 صفحة، سيكون العاشق، في أحد أبعادها، هو كاداريه، الذي عاد من المنفى، فيوجد كاتب ثمانيني في الرواية، والطاغية يمكن أن يشير إلى الرئيس خوجة، إذ تذكر الرواية الأحزاب، كما تُشير مباشرة إلى "القائد"، الذي جاء ليصطاف في بلدة "بوغراد الألبانية".
ترك إسماعيل كاداريه مجموعة كبيرة من الأعمال الأدبية (تجاوزت 50 عملاً)، كثير منها مُتْقَنٌ في تقديم مواضيعه، ومُمْتِعٌ أيضاً.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي