ما قبل سجن صيدنايا

04 يناير 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

هناك جو احتفالي سريع في سورية بنهاية نظام الأسد، وهذا مشروع بالقياس إلى ما عاناه الشعب من حرب إبادة وتهجير في العقد الأخير على يد النظام الساقط وحلفائه من الروس والإيرانيين والمليشيات الطائفية العابرة للحدود. وفي غمار ذلك، يمكن ملاحظة إشارات ذات أهمية عالية، لكنّها غير مطمئنة، لأنها تعكس روحية القفز عن محطّات أساسية من نضال السوريين من أجل الحرّية. وعلى سبيل المثال، يتركّز النقاش بصدد تاريخ السجون التي بناها النظام في سورية في سجن صيدنايا، وكأنّه الوحيد الذي حوّله النظام مسلخاً بشرياً، من دون التطرّق إلى بقية السجون، وخاصّة ما هو أكثر رعباً منه، وهو سجن تدمر الصحراوي، الذي وصفه تقرير منظمة العفو الدولية بأنه "مصمّم لإنزال أكبر قدر من المعاناة والإذلال والخوف بالنزلاء"، كونه يشكّل مختبرَ (وجوهرَ) فلسفة التوحّش، التي أرساها وطبّقها الأسد (الأب)، ومن ذلك إعدام رفعت الأسد أكثر من 900 سجين دفعة واحدة في 27 يونيو/ حزيران 1980. ورغم أن تنظيم داعش دمّر السجن وأخفى معالمه في 2015، فإن شهوداً عديدين على ذلك المسلخ الرهيب لا يزالون أحياء، ومنهم من عاش تجربتَي تدمر وصيدنايا، وسجّل شهادته في كتاب.
ليس سجن صيدنايا المحطة الأولى في تاريخ القمع في سورية، مثلما أن الثورة ضدّ حكم عائلة الأسد لم تبدأ عام 2011، وتاريخ المعارضة والنضال ضدّ الاستبداد لا يمكن تلخيصه بعقد، وأكثر ما هو لافت اليوم هو أن لا أحد يأتي على الصفحات الكثيرة من نضالات السوريين التي سبقت ثورة الحرّية والكرامة. هناك سجون كثيرة وضحايا بالآلاف من النساء والرجال على مستوى سورية كلّها. لا يمكن القفز عن أهوال السجون كافّة، ولا طمس تضحيات جيل كامل من الشباب السوريين، الذين دخلوا السجون في السبعينيّات والثمانينيّات والتسعينيّات، وهم يرفعون شعار إسقاط النظام، وهنا تحضر رابطة العمل الشيوعي، والحزب الشيوعي - المكتب السياسي، وحزب البعث الديمقراطي، وحزب العمّال الثوري، وجماعة الإخوان المسلمين. لا يمكن نسيان نضال كوكبة طويلة من "الرموز" الكبار الذين ضحّوا من أجل بناء سورية ديمقراطية، مثل صلاح الدين البيطار وجمال الأتاسي ويوسف زعيّن ونور الدين الأتاسي وعصام العطار ورياض الترك وحمود الشوفي وضرار فراس وعمر قشّاش، وعدنان سعد الدين وحسن العلي الأحمد وناصر سابا. هناك أجيال من المثقّفين والكُتّاب والفنّانين والحقوقيين، الذين واجهوا الاستبداد، وبعضهم دخل السجون، وبعضهم الآخر عاش في المنفى عدّة عقود، ولم يساوم على موقفه واستمرّ في فضح النظام. هؤلاء كلّهم شركاء في الانتصار الذي حقّقه الشعب السوري في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، ولا يمكن لأيّ رواية عن ملحمة الشعب السوري أن تُعدّ أمينةً وصادقةً وموضوعيةً، من دون أن تضع هؤلاء في الصدارة.
حتى لا يعتمد السوريون تاريخاً مُجتزَأً ومبتوراً من سياقه يجب التروي قليلاً، والنظر إلى ما عانته سورية من حكم عائلة الأسد وحزب البعث، الذي أرسى قانون الطوارئ في عام 1963، بوصفه مساراً واحداً لا يقبل التجزئة، مع الأخذ بالاعتبار أن الموجة الأكبر هي التي بدأت مع الربيع العربي في مارس/ آذار 2011، ولها الفضل في إسقاط حاجز الخوف، وهزّ جدران مملكة الصمت، ولكن لا يصحّ أن تمحو ما قبلها من نضالات كبيرة، مهّدت لها الطريق وراكمت خبرات كبيرة، شاركت في الدفع بها إلى مستويات متقدّمة جدّاً. ومن هنا يتطلّب الأمر اعتماد مقاربات غير متسرّعة، ومعايير ذات طابع يحترم إسهام الأجيال السابقة، ويضع المسائل كلّها في نصابها الصحيح، على نحو لا يُقصي الذاكرة.

شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
بشير البكر