ما تعكسه المواجهة في فلسطين

16 مايو 2021

(سليمان منصور)

+ الخط -

استسلمت إسرائيل إلى اطمئنان مزيف، بعد موجة من اتفاقيات التطبيع مع دول عربية اختارت أن تنهي حالة العداء الظاهري مع الكيان المحتل، وتنقلَ العلاقات المتبادلة من تحت الطاولة إلى فوقها، وتبدأ تعاملاً مريحاً وعلنياً محكوماً بعلاقة "الجوار الحسن". اعتقدت إسرائيل أنّ اتفاقيات أبراهام ستترسخ في المرحلة الأولى، ثم تتوسع، لتشمل مزيداً من الدول العربية، وتصبح هي الحالة السياسية السائدة في المنطقة. وقد عكست صحف إسرائيل، وكثير من أحزابها، راحة واسترخاء بعد حالة السلام الواعد التي هيمنت على المناخ. السلام الخارجي ينفع إسرائيل، ويعطيها مزيداً من التحكّم بالطريقة التي تعامل بها الفلسطينيين في الداخل، فحالة التطبيع لا تشمل بنود تخلي العرب عن الفلسطينيين بشكل صريح، لكنّها في الواقع تُضمر موقفاً حيادياً، يضع جميع الأطراف على قدم المساواة، وأقصى حالة تدخل يمكن تسجيلها في حالات التطبيع هي المناشدة لوقف العنف من دون تسمية الطرف العنيف. ويبدو أنّ إسرائيل ستستمتع بممارسة "ترف" انتخاب سيعاد، المرة بعد الأخرى، مجترّة مشكلاتها الداخلية التي تحوّل جزء كبير منها إلى مشكلة شخصية، تتلخص بمقولة: "هل يكون نتنياهو أم لا يكون؟".

بعدما توغلت إسرائيل حتى أنفها في عمليات السلام، وأغلقت إلى الأبد جبهات مثل سيناء والجولان وجبهات جانبية أخرى يمكن أن ترفدهما في العقود السابقة، لم تفكّر في أنّ عليها أن تواجه جبهاتٍ في باب العمود أو حيّ الشيخ جرّاح. وما إن انتشرت أخبار هذه المواجهات، حتى دخلت أماكن أخرى لم تتوقعها إسرائيل، في اللد ويافا وعكا. وبالتأكيد، لن يجري التهاون مع التعرّض للمسجد الأقصى، وهو مكون ثقافي وديني أساسي لسكان المنطقة، فهو مستوى آخر من مستويات المواجهة المستمرة، وتشبه مواجهة الطبقات نفسها التي تقاوم في المدن. و"حروب" من هذا النوع لن تفيد معها القبّة الحديدية، ولا ترسانة الأسلحة، وألوية الاحتياط التي يمكن حشدها خلال ساعات، وزجّها في ساحات المعارك. هذه الانتفاضات التي طاولت المدن الواقعة تحت الاحتلال أظهرت، بشكل دقيق، حالة المواطن العربي وشوارعه ومكان سكنه والحدائق التي يتنزه بها، فبيّنت الفارق في مستوى اهتمام الحكومة المتدنّي بالأحياء ذات الأكثرية العربية، مقارنة بالتجمعات السكنية للمستوطنين الذين كانوا يقولون إنّهم يتعايشون مع جيرانهم العرب "بسلام ومساواة".

منذ عام 2005، حين فكّت إسرائيل ارتباطها مع قطاع غزة، حوّلته إلى عدو بحدود واضحة، بحيث يمكن القيام بهجوم منسق عليه، من طريق جيش نظامي، لامتصاص أزماتٍ داخليةٍ أو خارجية، وكرّست للمليونَي شخص الذين يعيشون داخله قوانين مختلفة عن التي تتعامل بها مع مدن الضفة، فلا يسمح لأحد من غزة بالعبور إلى داخل المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل، لا لعمل وزيارة أو حتى استشفاء، وحشدت أمامهم معظم ترسانتها العسكرية، بعدما اطمأنت إلى باقي الجبهات التقليدية، فمارست على سكان القطاع بطولاتها، وكانت تقوم بهجوم عسكري منظم، يترافق باجتياح برّي بين فترة وأخرى. تكرّر ذلك في عمليات "الرصاص المصبوب" و"عمود السحاب" وآخرها في عملية "الجرف الصامد"، وإسرائيل الآن تريد أن تمتص كلّ ما في مدنها الداخلية من غضب ومن فوضى ومن افتضاح لسمعتها الدولية، بالهجوم على القطاع الذي عليه أن يتحمّل في كلّ مرة موجة الألم الكبرى التي يسببها هذا الكيان.

تدرك إسرائيل أن لا مفر لها من المواجهة، ما دامت تهضم حق العربي الفلسطيني، ولن تفيدها اتفاقيات التطبيع، حتى بالطريقة المعنوية، بينما يبدو الفلسطيني في الداخل والخارج مدركاً أنّ هذه معركته، ويجب أن يخوضها مع العرب الآخرين أو من دونهم. ويمكن أن تعوّض موجة التعاطف العالمي ذات الطبيعة الشعبية تجاهلاً، كثيراً ما واجه به الحكام العرب هذه الانتفاضة الجديدة.