ما السرّ بين الله وبليغ حمدي؟

13 سبتمبر 2022
+ الخط -

يبدو، في ظاهره، سؤال المحبّ، للاستفهام والرغبة في المعرفة، لكن حين تعرف أنّه سؤال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لصديقه (وصديق بليغ حمدي) الإعلامي وجدي الحكيم، فهو سؤال الغيور، رغم ما له من تاريخ عظيم، كما أنه الاستفهام الذي لا يخلو من خبثٍ فني، فهو يشير من طرفٍ ليس خفيا أن ما لدى بليغ من جمال وعذوبة هو وحي وإلهام أكثر مما هو إبداع واجتهاد واشتغال جادّ على الموهبة. يقول عبد الوهاب، وفق رواية وجدي الحكيم في برنامج استديو مصر، في الموسيقى سهلٌ ممتنعٌ يمنحه الله للملحن مرة في العمر، مرتين، ثلاثة، لكنه يمنحه لبليغ كل أسبوع، كيف هذا؟ أجلس أحياناً (والكلام ما زال لموسيقار الأجيال) أتأمل، فأجد نفسي، من دون أن أشعر، أردّد "زي الهوا". تبدو الجملة بسيطة وسهلة، لكنها ليست كذلك... يجيب وجدي الحكيم أن سر بليغ هو التوحد مع العمل الفني، فهو لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، ولا ينشغل بشيءٍ في الدنيا سوى موسيقاه... تبدو الإجابة نموذجية، كما أن فيها "نَفَسَا" من معرفة بليغ الشخص، ربما أكثر من الملحن، بليغ الفوضوي، البوهيمي أحيانا، الذي لا يعرف سوى استمتاعه، بالموسيقى، بالسفر، بكسر المعتاد، لكنها في الأخير جانبٌ من بليغ، وقد تكون أحد وجوه الحقيقة من وراء سرّ بليغ، لكنها ليست الحقيقة الكاملة، والتي أزعم أنّ بليغ نفسه لم يكن يعرفها أو يحيط بها.
أحد التعريفات ذات النفس الصوفي للموسيقى، أنها طريقٌ إلى الله، لمن يبحثون عنه، جل شأنه، في الجمال. هنا أجدني منحازا إلى لافتة: "كل الفنون تتمنّى أن تكون موسيقى" فهي صلة الجمال بين السماء والأرض، وهي اللغة الأكثر إنسانية، وكونية، ونفاذاً، نفهمها (بالأحرى: نتنفّسها)، وإن لم نعرف حروفها وكلماتها وقواعدها، وقد يصل إلينا منها، أو إلى رجل بسيط يسمع "الست" في الراديو، ما لا يصل إلى أستاذ الموسيقى الشرقية في أعظم المعاهد الموسيقية. (والعكس صحيح بالضرورة). هنا سرّ الصنعة، سرّ بليغ، وكل بليغ، قدرته على "الوصول"، أيا كان انحيازه الفني، مذهبه، لونه، ففي كل مذهبٍ، ولونٍ، جانبٌ من الجمال، من يصل إليه، يصل به.
يختلف بعض النقاد مع هذه الرؤية، ويرى بعضهم في بليغ ظاهرة شعبوية، وغلطة أم كلثوم التي لا تُغتفر، ويعلقون بدورهم لافتاتٍ من نوعية أين بليغ من محمد القصبجي ورياض السنباطي وزكريا أحمد، ويرون في بساطة بليغ تبسيطا مخلا، وركاكة، بل وضعفا!، إلى غير ذلك من آراء حدّية. وفي تقديري، الفارق بين حدس أم كلثوم (تربية الموالد) وتنظيرات هؤلاء "الراديكاليين" هو ما منح  صوت "الست" خلودَه، وقدرتَه، ربما من دون غيره، على مخاطبة أذواق "السمّيعة" المختلفة، من دون أن تفقد الست شخصيتها، وهو ما جعل منها "ظاهرة"، لم تسقط من ذاكرة قرنٍ جديد، لم ينجبها، ولم يحتفِ بموسيقى زمانها، أو أشعاره، لكنّه منحها استثناءً تستحقه، ويستحقه معها كلّ من أدرك أنّ الجمال "رزق" ومنحة إلهية لا تعرف الانحياز لفرقةٍ من دون أخرى، إنّما تعرف خطو "السائرين" على الدرب. 
كان بليغ مشغولاً بسؤال التجديد، محتفياً بالجمال، في شتّى صوره، يسمع الموسيقى الغربية وغيرها، لكنّه كان متوجّساً، على غير ما يشيع نقاده، من الذوبان في موسيقى الآخر، وضياع شخصيتنا وموسيقانا، وكان في ذلك أكثر "تمصيراً" من غيره، بحث عن صوته، كما فعل من قبله سيد درويش، في الأغنيات الشعبية المتوارثة، أغاني أهل الريف والصعيد ونداءات باعة الفاكهة "المنغّمة"، ووصل الأمر إلى مطالبته أم كلثوم بأن يكون مدخل الكوبليه الثالث من "فات المعاد" على أنغام الربابة، بدلاً من الكمنجات، وليتها طاوعته، ولو كان السؤال أين بليغ من سابقيه، فالإجابة هي أنّه على دربهم، درويش والقصبجي وعبد الوهاب ومحمد فوزي وغيرهم، لكن بطريقته، التي تناسب شخصيته وزمانه، رحم الله بليغ... عرف زمانه فاستقامت طريقته.