ما الجدوى من العمل السياسي في المغرب؟

10 مارس 2021
+ الخط -

تطرح طريقة حساب "القاسم الانتخابي"، الذي يتم على أساسه توزيع مقاعد البرلمان في الانتخابات النيابية المقبلة في المغرب، جدلا واسعا بين حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة والأحزاب الأخرى الممثلة داخل البرلمان، بما فيها تلك المشاركة في الائتلاف الحكومي. وأدّى التصويت على القانون الجديد الذي ينص على أن تكون هذه القسمة مبنيةً على توزيع عدد المقاعد على مجموع الناخبين المسجلين، وليس على مجموع الأصوات الصحيحة كما كان يجري في الاستحقاقات السابقة، إلى بروز شرخ واضح داخل الائتلاف الذي يقود الحكومة، ما دفع محللين سياسيين إلى ضرورة إعادة طرح تصويت الثقة في الحكومة، خصوصا بعد أن صوّتت أحزاب الأغلبية كلها، باستثناء "العدالة والتنمية"، لصالح القانون الجديد، ما وضع الحزب الذي يقود الحكومة في موضع الأقلية. ولو جرى مثل هذا التصويت داخل أي برلمان ديمقراطي، وفي أيٍّ من الدول التي تحترم إرادة شعبها، لنتج عنه تقديم رئيس الحكومة استقالته تلقائيا، وحل الحكومة. أما في المغرب فقد اكتفت فقط أصوات من داخل حزب رئيس الحكومة بالمطالبة بإعادة طلب التصويت داخل البرلمان، لتجديد الثقة في الحكومة التي باتت فاقدةً شرعيتها البرلمانية.

ليست طريقة حساب "القاسم الانتخابي" مسألة تقنية محضة، وإنما هي أكبر وأعمق من ذلك، لما سيترتب عنها من نتائج سياسية، عقب الانتخابات المنتظر أن تنظم هذا العام. إنها طريقة ذكية لإزاحة حزب العدالة والتنمية من تصدّر الانتخابات المقبلة بدون تزوير نتائجها. ويكفي أن نعرف أن مشروع القانون الجديد جاءت به وزارة الداخلية، وهي وزارة سيادة يرأسها وزير عينه الملك، وغير منتم لأيٍّ من أحزاب الائتلاف الحكومي، وفي التجربة المغربية تمثل هذه الوزارة ذراع الدولة العميقة في المغرب. وبحكم القانون الجديد، سيُحرم الحزب الذي سيحصل على أكبر عدد من الأصوات في دائرته الانتخابية من نيل أكثر من مقعد واحد في الدائرة نفسها، بما أن القسمة ستكون حسب عدد المسجلين في الدائرة نفسها، وليس حسب الأصوات المعبّر عنها الصحيحة. وبالنسبة لحزب العدالة والتنمية الذي تصدّر الانتخابات التشريعية في المغرب عامي 2011 و2016، ومكّنته من رئاسة الحكومة طوال العقد الماضي، سوف يتعذّر عليه حصد أكثر من مقعد واحد في كل دائرة انتخابية، وهو ما يعني نقصان عدد نوابه في البرلمان. وبما أن ما كانت تسمى "اللائحة الوطنية" المخصصة للشباب لم تعد موجودة، وتلك التي كانت مخصّصة للنساء لم تعد تحتسب حسب النتائج التي يحصل عليها كل حزبٍ على المستوى الوطني، وإنما على حساب ما سيحصل عليه كل حزب من أصوات داخل "الجهة" أي المنطقة، وفي المغرب 12 منطقة، ما يعني أن عدد المقاعد المخصصة للنساء، وهي 90 في البرلمان المقبل، سوف تُقسم على مناطق المغرب الاثنتي عشرة، وستؤول إلى الأحزاب التي حصلت على أكبر عدد من الأصوات داخل كل منطقة، وهو ما يعني أن "العدالة والتنمية" سيخسر مقاعد نسائه في المناطق التي ليس له فيها وجود قوي. وقد أظهرت نتائج انتخابات 2016، وقبلها نتائج انتخابات 2011، أن أغلب الأصوات التي حصل عليها الحزب كانت داخل المدن الكبرى، بينما سجل أداءً ضعيفا في الأرياف والمدن الصغرى.

لن يأخذ النقاش الدستوري والقانوني والسياسي مداه، وسيظل حبيس أروقة الجامعات ومجرّد تعليقاتٍ على منصات التواصل الاجتماعي

ومنذ أن طُرح هذا القانون الجديد، أثير حوله نقاش كثير، بخاصة وأن الغرض السياسي من ورائه كان جليا منذ البداية، قطع الطريق مسبقا على الحزب الإسلامي لتصدّر الانتخابات المقبلة، وبالتالي رئاسة الحكومة للولاية الثالثة على التوالي، بعدما تولى رئاستها ولايتين متتابعتين، وهي سابقة في تاريخ المغرب المعاصر. وبالنسبة لمؤيدي هذا القانون يرون فيه احتراما للتعدّدية الحزبية في المغرب، بما أن مقاعد البرلمان في كل دائرة انتخابية ستوزع على الأحزاب المتصدّرة نتائجها في الدائرة نفسها، ولا يهم عدد الأصوات التي حصلت عليها، بما أن مجموع مقاعد الدائرة الانتخابية ستوزّع بالتساوي، حسب الترتيب من أكبر نسبة إلى الأقل منها نزولا إلى أصغرها، وهو ما قد يمكّن بعض الأحزاب الصغيرة من الدخول إلى البرلمان المقبل، أو تقوية وجودها داخله. ولكن المعارضين لهذا القانون يرون فيه نوعا من البلقنة للخريطة الحزبية، وضربا للعدالة الانتخابية، بما أن الحزب الحاصل على أكبر عدد من الأصوات الانتخابية سيُجازى مثله مثل الحزب الذي حصل على أصوات أقلّ منه بكثير، ويصبحان متساويين في تمثيلهما إرادة الشعب داخل البرلمان.

وبعيدا عن الاصطفاف الذي نتج عن التصويت على هذا القانون، ما بين مؤيد ومعارض له، وما بين أنصار حزب العدالة والتنمية وخصومه، يبقى الغرض غير المعلن عنه منه هو الالتفاف على الإرادة الشعبية الحقيقية، المعبّر عنها من خلال المشاركة الانتخابية. والواقع أن المشاركة الانتخابية في المغرب تتضاءل سنة انتخابية بعد أخرى، بسبب فقدان أغلبية الناس الثقة في السياسة والسياسيين وفي المؤسسات السياسية. وثمّة من يرى أن "العدالة والتنمية" ما كان له ليتصدّر نتائج الاستحقاقات السابقة، لولا العزوف الكبير للمغاربة عن المشاركة فيها، بعد أن خذلتهم أغلب الأحزاب السياسية، وفي مقدمتها "العدالة والتنمية" نفسه، عندما اصطفّ ضد الحراك الشعبي الذي طالب بتغييراتٍ ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ عام 2011، وإلا فإن الحزب الذي يرأس الحكومة اليوم، والمفروض أنها تمثل أكثر من 24 مليون مغربي يمثلون الكتلة الناخبة، لم يحصل سوى على 1.6 مليون صوت، خلال انتخابات 2016، أي أقل من 5% من أصوات المغاربة الذين يحق لهم التصويت، وهو ما يطرح السؤال الجوهري للعدالة التمثيلية لسيادة الشعب تحت قبة البرلمان، وداخل مؤسسات الدولة.

ليست طريقة حساب "القاسم الانتخابي" مسألة تقنية محضة، وإنما هي أكبر وأعمق من ذلك، لما سيترتب عنها من نتائج سياسية

وكما تجري عليه العادة في المغرب، لن يأخذ هذا النقاش الدستوري والقانوني والسياسي مداه، وسيظل حبيس أروقة الجامعات ومجرّد تعليقاتٍ على منصات التواصل الاجتماعي. وحتى قبل أن ينتهي الحسم فيها دستوريا أمام المحكمة الدستورية، سرعان ما عادت المياه إلى مجاريها، واستمرت الأمور كما كانت عليه. لم يستقل رئيس الحكومة، وظلت الأغلبية منقسمةً على نفسها داخل البرلمان، ومتمسكةً ببقائها داخل الحكومة نفسها، على الرغم من تصويت أغلبية أعضائها ضد رئيسها. وهذا الوضع النشاز الذي يندر أن نجد له مثيلا في الديمقراطيات الحقيقية يطرح أسئلة عميقة فيما يتعلق بمدى قيمة العمل السياسي والهدف منه. هل الهدف منه الحصول على أكبر عدد من المقاعد داخل البرلمان ورئاسة الحكومة وتوزيع المناصب على الأتباع والشيع؟ أم هو الدفاع عن المبادئ وحماية القيم وخدمة الناس لتغيير أحوالهم وتحسين أوضاعهم؟ كان لافتا للانتباه أن أصواتا خجولة، على قلتها، داخل حزب العدالة والتنمية لم ترتفع لمطالبة قيادتها بالاستقالة من الحكومة، وتلويحها بمقاطعة الانتخابات المقبلة، إلا عندما أدركت أن القانون الجديد يستهدف حصة الحزب من المقاعد البرلمانية، ومن سيترتب عنها من غنائم داخل الحكومة وإدارات الدولة. ولم نسمع مثل هذه الأصوات، عندما أٌجبر رئيس الحزب ورئيس الحكومة على التوقيع مكرها على اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني، في تناقضٍ سافرٍ مع مبادئ الحزب وقيمه. كما لم نسمع مثل تلك الأصوات ترتفع، عندما كان يتم قمع المظاهرات الشعبية المطالبة بالحرية وكرامة العيش وزجّ أصحابها وكل من ناصرهم من صحافيين وحقوقيين في السجون، بعد محاكمات ظالمة، أو حتى بدون محاكمات. إذا كان الهدف من العمل السياسي هو دخول البرلمان والجلوس في الحكومة، فإن حزب العدالة والتنمية يوجد في البرلمان ويرأس الحكومة منذ عشر سنوات بدون جدوى. ومن دون أن يحقق أيا من الوعود التي ما زال يمنّى الناس بها. وسواء تبوأ هذا الحزب الانتخابات المقبلة وترأس الحكومة المنبثقة عنها، أو لم يتحقق له مبتغاه، فلن يغير هذا الأمر أي شيء من حال السواد الأعظم من المغاربة الذين لا تزيدهم مثل هذه "النقاشات" السياسية سوى نفور من العمل السياسي، كما تتصوّره الأحزاب المتصارعة حول غنائمه، وما ينتج منه.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).