مافيا وليست دولة

02 يونيو 2024
+ الخط -

هل عادت الإنسانية إلى عصر التوحّش؟ أصبح هذا السؤال من البديهيات في ظل الحرب الظالمة على غزّة. فما حصل، أخيراً، في أحد مخيّمات رفح لا يمكن وصفه إلا بأنه سلوك حيواني يُعيدنا إلى العصر الحجري، حين كان البشر يصطادون بعضَهم ويشوون ضحاياهم فوق النار، ويفضّلون لحوم الأطفال والنساء. لهذا، وصف كثيرون في العالم مشهد الحريق الذي التهم من في الخيام بـ"الهولوكست"، في إحالة إلى ما صنعه النازيون باليهود عندما ألقوا بهم في المحرقة.

تُثبت نظرة نتنياهو إلى نائبٍ فلسطينيٍّ في الكنيست، ذكّره بعذاب الله يوم الحساب في حال نجاته من عقاب الدنيا مردّدا الآية الكريمة "إن بطش ربك لشديد"، أنه شخصٌ لا يمكن أن يكون مخلوقاً سوياً. نظراته مليئة بالحقد والشر والسعادة والرغبة في مزيد من القتل والانتقام. مثله مثل مصّاصي الدماء في أفلام الرعب.

لن نتحدّث عن الرئيس جو بايدن الذي أنكر ارتكاب إسرائيل حرب إبادة في فلسطين، ولكن ما قامت به مرشّحة الحزب الجمهوري نيكي هايلي لخوض الانتخابات الرئاسية الأميركية قبل هزيمتها أمام ترامب، هذه المتخرّجة من جامعة كارولين الشمالية، عندما زارت موقعاً حُدودياً مع جنوب لبنان، اختارت عن وعي أن تكتب بخطّ يدها على قذيفة مهيأة لتدمير المدنيين "أقضوا عليهم". هل تملك هذه السيدة شيئاً مما تتمتّع به النساء من مشاعر إنسانية متعارف عليها. هي صنفٌ مختلف من المخلوقات التي تجدها في الولايات المتحدة تجمع بين الأناقة والشهادات الجامعية والمساحيق باهظة الثمن تخفي قلوباً سوداء وأحقاداً رهيبة.

هذه ليست سوى عينات دالّة على مأساوية المشهد الراهن الذي يلفّ غزّة وعموم فلسطين. مع ذلك، لم يستسلم الضمير العالمي للبربرية الجديدة. إسرائيل في عزلة كاملة وغير مسبوقة. أغلب شعوب الأرض وحكوماتها تقف اليوم في وجه الغطرسة المستمرّة بلا هوادة. إذ كلما توترت أعصاب أفراد العصابة الحاكمة في الكيان الصهيوني بسبب عجزها عن القضاء على المقاومة، وكلما ازداد جنونها، تضاعفت في المقابل أشكال التضامن مع فلسطين بوصفها قضية عادلة.

من كان يتوقع أن يجرؤ نائب فرنسي على رفع علم فلسطين داخل البرلمان، فيعاقَب بتجميد حضوره في الجلسات الموالية أسبوعين. يُغادر البرلمان لينضمّ إلى تجمّع تضامني مع غزّة، فيصعد فوق المنصّة ويرقص على أغنية "أنا فلسطيني". بعد ذلك، تروج عريضة وقع عليها أكثر من 170 ألف فرنسي يطالبون بمعاقبة رئيسة البرلمان التي كانت تضع على صدرها علم الصداقة الفرنسية الإسرائيلية.

لأول تميل الكفّة لصالح تضامن الأميركيين مع الفلسطينيين وتراجع نسبة المؤيدين لإسرائيل. 42% مقابل 40%، فكلما زاد العنف الصهيوني تغيّرت موازين القوى، وارتفع عدد المدركين زيف السردية الإسرائيلية وبطلانها.

أصبحت إسرائيل دولة مارقة بامتياز، كياناً متمرّداً على مختلف القوانين والهياكل الدولية. يهدّد حكّامها كل من يحاول الخروج عن طوعهم بمعاقبته، فالدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية تعرّضت للتهديد. ومزّق سفيرها في الأمم المتحدة ميثاق هذه الهيئة الدولية الجامعة للعالم أمام الجميع، وقررت طرد ممثلي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من المناطق الفلسطينية، ووصفتا بالمنظمة الإرهابية. كما هدّدت بمعاقبة المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، لأنه عبّر عن احتمال إصدار أوامر اعتقال نتنياهو. كما سبق لرئيس الموساد الأسبق يوسي كوهين أن تجسّس على هاتف المدّعية العامة السابقة لهذه المحكمة فاتو بنسودا، وهدّدها بتسجيلات لزوجها بعد أن حاول تجنيدها، مقابل التراجع عن التحقيق في "جرائم الحرب" حسب ما أوردت صحيفة الغارديان البريطانية. واعتبرت وسائل إعلام إسرائيلية هذا العمل المافيوزي "قذراً وخطيراً".

يدلّ ذلك كله على أن إسرائيل لا تمارس السياسة بأساليبها التي تعارف عليها العالم، فما تفعله هو شغل أشهر العصابات في العالم، فماذا تسمّى الأطراف التي تسند كياناً يجسّد كل هذا الشر والقذارة، وتبرّر أعماله الإجرامية، وتمدّه بالسلاح والمال والغطاء الدولي إلى حد التواطؤ؟

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس