ماذا يقصد دعاة "إنقاذ إسرائيل من نفسها"؟
في خضمّ حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل ضد شعبنا الفلسطيني في قطاع غزّة، وتدخل هذه الأيام شهرها السادس، عَلَت أصوات في إسرائيل تدعو إلى إنقاذ "الدولة اليهودية" من نفسها تحت وطأة مشاعر الانتقام البهيمية التي تسيطر على غرائز قادتها السياسيين والعسكريين ورأيها العام في معظمه، ردّاً على عملية طوفان الأقصى.
جديد هذه الأصوات، أخيراً، الدبلوماسي السابق ومدير منظّمة جي ستريت في إسرائيل، نداف تامير. و"جي ستريت"، كما تُعرّف نفسها، منظّمة سياسية موالية لإسرائيل ولتحقيق السلام، وتضمّ في صفوفها يهوداً أميركيين يريدون لإسرائيل أن تكون آمنة وديمقراطية و"وطناً قومياً للشعب اليهودي"، كما أنها تشجّع السياسات المشتركة التي من شأنها النهوض بالمصالح الأميركية والإسرائيلية وكذلك اليهودية، ثم تعزيز القيم الديمقراطية، ما يؤدّي إلى حلّ الدولتين وإنهاء ما تصفه بأنه صراع إسرائيلي - فلسطيني.
ما ينبغي ملاحظته أن هذه الأصوات، كما ينمذج عليها تامير بمقال نشره في صحيفة معاريف الإسرائيلية أمس (الثلاثاء)، تركّز على ضرورة إنقاذ إسرائيل من نفسها على مستويين: الأول، مستوى تمسّكها الاستحواذي بالاحتلال في أراضي 1967، والذي يُعدّ برأيها العامل الرئيسي لاشتداد عود (ونفوذ) الصهيونية الدينية والتيارات المسيانية، والتي باتت مع الحكومة الإسرائيلية الحالية في رأس هرم المؤسّسة السياسية، فضلًا عن اتساع نفوذها، بل هيمنتها على قيادة الجيش الإسرائيلي والمؤسّسة الأمنيّة. والمستوى الثاني، إنقاذها من حكم اليمين المتطرّف الذي يسعى من خلال ممارسات ممنهجة ومُحدّدة إلى جعل إسرائيل دولة إثنوقراطية وثيوقراطية.
بيد أن عبارة "الإنقاذ من النفس" فيما يخصّ إسرائيل ارتبطت إلى درجة كبيرة قبل احتلال 1967 بجهود ربع الساعة الأخير التي بذلها رئيس الجامعة العبرية في القدس، يهودا ليف ماغنِس، لدى محافل الإدارة الأميركية من أجل منع قيام إسرائيل وتجنّب اندلاع حرب 1948. وبحسب ما ورد في يومياته، كان ماغنِس معتلّاً صحيّاً في بداية إبريل/ نيسان 1948. على الرغم من ذلك، قرّر السفر على وجه السرعة إلى البيت الأبيض في واشنطن، من أجل محاولة وقف الحرب الدائرة في فلسطين، ولم يكن يمثل أحداً، باستثناء مجموعة أساتذة في جامعته. كذلك كانت تربطه علاقات وثيقة مع كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية. وكان هدفه الرئيسي من السفر إقناع الرئيس الأميركي، هاري ترومان، أن يفرض وقف إطلاق النار، وأن يمنع تطبيق قرار التقسيم من عام 1947 ويمنع قيام الدولة اليهودية.
الأكثر أهمية ودلالة أن ماغنِس تنبّأ بأنه حتى إذا انتصرت "الدولة اليهودية" التي كانت في طور الإنشاء في الحرب، فستندلع حروبٌ أخرى، ولن تكون نهاية لذلك. وعندما بدأت معارك حرب 1948، حاول وقف تطبيق قرار الجمعية العامة بشأن تقسيم فلسطين والدفع بالفكرة التي بادرت إليها وزارة الخارجية الأميركية، وفحواها أن تجمّد الأمم المتحدة قرار التقسيم وتفرض مؤقّتاً على الجانبين "نظام وصاية" وتشكيل حكومة مؤقّتة، حتى تنضج الظروف لتطبيق اتفاق آخر. وقد اعتقد أن هذه الفكرة تعتبر فرصة لوقف تدهور الأوضاع، على أمل التوصل، في هذه الأثناء، إلى تفاهم ويصبح بالإمكان إجراء حوار. وأخبر القنصل الأميركي بتبليغ ماغنِس بأنه إذا لم يتم إقامة نظام الوصاية قبل 15 مايو/ أيار 1948، فإن فلسطين ستدخل "في فترة مليئة بالمخاطر وسفك الدماء". وكتب ماغنِس في يومياته بتاريخ 12 إبريل/ نيسان 1948 أن "ثمّة حاجة إلى مقاربة شجاعة وبنّاءة كما مقاربتي. حان الوقت لأن أسافر مع آخرين أو وحدي إلى الولايات المتحدة لتمرير هذه الرسالة". وراوده أمل بأن تفرض الولايات المتحدة عقوباتٍ على فلسطين كلها في حال أُعلن قيام دولة إسرائيل. وقال لاحقاً لمسؤولين أميركيين إنه "لا يمكن خوض حربٍ من دون مال وذخيرة"، ولكن الولايات المتحدة سارعت إلى الاعتراف بإسرائيل. وبعد ذلك بأقل من خمسة أشهر، توفي ماغنِس في الولايات المتحدة، ودُفن في القدس.