ماذا يستطلع لودريان في لبنان؟
أمضى الدبلوماسي الفرنسي المخضرم، جان إيف لودريان يومين في بيروت، في جولة اسستكشافية لمعالم التغيير التي حصلت، وربطاً بالأوضاع غير المستقرّة في قطاع غزّة وجنوب لبنان. ولم يحمل معه إجاباتٍ كثيرة عن الصعوبات التي تمنع تنفيذ خريطة الطريق، التي وضعتها اللجنة الخماسية في مستوى بيان السفراء الأخير. سلسلة اللقاءات التي أجراها تناولت، أكثر، الاستفسار عن مواقف الأطراف، وما إذا كان يساهم تلاقيها عند قواسم مشتركة في انتخاب رئيس للجمهورية.
لم تحمل زيارته أيَّ مبادرة أو طرح فرنسي جديد، غير رؤية الكتل السياسية، وغير التأكيد أنّ فرنسا لن تترك لبنان، وعن الاستمراية في البحث عن رجلٍ ثالث مُرشّح للرئاسة، وتصوّرات ينقلها في تقريره إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فيما استبعدت مصادر مستقلّة أن يكون هذا الملفّ على جدول أعمال الرئيس الفرنسي، خلال لقائه المرتقب مع الرئيس الأميركي جو بايدن، على هامش الاحتفال السنوي الذي سيقام في منطقة النورماندي مطلع يونيو/ حزيران المُقبل، إذ سيكون النقاش في المجال الأوروبي الأوسع. والمفاهيم العامة للحوار مُحدّدة في نقاط عرضها الرئيس الفرنسي في زيارته الأخيرة إلى ألمانيا بشأن أوكرانيا، وممانعة أميركا استخدام السلاح الأوروبي الفعّال في مواجهة الغزو الروسي، إذ أرسلت كلٌّ من فرنسا وبلجيكا مستشارين عسكريين إلى كييف، إلى جانب نقاش آخر حول مستجدّات الوضع الإيراني وعدم رغبة أميركا في إرباكه أكثر. فيأتي وضع لبنان هامشياً، ونقاشاً عمومياً، ارتباطاً بتطوّر الأوضاع الإقليمية المتدهور في غزّة، وبرؤية شاملة، وبإطار أكبر، بشأن الوضع الإيراني. قد يكون المؤشّر البارز، الذي رافق الزيارة هو التنسيق السعودي الفرنسي، عقب الاتصال الهاتفي بين ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وبالإشارة إلى حركة السفير السعودي الناشط، أخيراً، في لبنان.
تدرك فرنسا أنّ رؤية حزب الله للوضع اللبناني إقليمية مرتبطة بالداخل الإيراني، وليس في وضعية الاستعجال لإنجاز الاستحقاق الرئاسي
تدرك فرنسا أنّ رؤية حزب الله للوضع اللبناني هي رؤية إقليمية مرتبطة بالداخل الإيراني، وليس في وضعية الاستعجال لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، بعكس مواقف الأطراف الأخرى، وفق معادلة ترابط الأزمات والتسويات، وهو معنيُّ بتطور الأوضاع الإقليمية، أكثر ممّا يتطلع إلى لبنان أو إلى الوضع السوري مع تفاقم أزمة اللاجئين السوريين. وهو يمسك جيداً بالسلطة السياسية والأمنية في لبنان. لكنّ لودريان أراد أن يقول للبنانيين، وللأطراف الداخلية بتركيباتها المعروفة، "إنّ الأولوية هي للاستقرار إلى حين الإفراج عن انتخاب رئيس الجمهورية والنفاذ من ظروف النزاعات إلى مرحلة انتقالية، بعد التوصّل إلى وقف لإطلاق النار في غزّة، ما يتيح للإدارة الأميركية التحوّل نحو لبنان في سياق حلّ شامل تسعى إليه الأطراف الدولية لتهدئة التوتّرات، خوفاً من اندلاع حرب واسعة. بالانتظار، كان التفاعل الخماسي مع مقترح صاغته واشنطن بالتعاون مع باريس، وقدّم إلى اللبنانيين وحزب الله، عبر ورقة فرنسية غير رسمية، مفتاحها السعي لتهدئة الجبهة المشتعلة في الجنوب، وتتوّج بالتركيز على قرار مجلس الأمن 1701، الذي أنهى بفعّالية حرب العام 2006، بين حزب الله وإسرائيل، لكنّه فشل في تأمين سلام دائم. وتنصّ الورقة/ الصفقة على انسحاب قوات "الرضوان" من سبعة إلى عشرة كيلومترات شمال الحدود (ليس بالضرورة ما وراء نهر الليطاني)، وانتشار نحو 15 ألف عسكري من القوات المسلّحة اللبنانية في طول الحدود، والسماح لقوة "يونيفيل" البالغ عددها ما يقارب 11000 ألف جندي القيام بدوريات أقلّ تقييداً في جنوب لبنان من دون مرافقة من القوات المسلّحة اللبنانية، إلى بناء مراصد مراقبة بريطانية قرب الحدود تكون بوابات للجيش و"يونيفيل"، ووقف الطيران الحربي الإسرائيلي فوق لبنان، مع إنشاء لجنة مراقبة لمناقشة أيّ انتهاكات للاتفاق الجديد، مشابهة لتلك التي أُنشئت في 1996. يلي ذلك، مفاوضات بشأن النقاط الحدودية المتنازع عليها، بهدف تحديد الخطّ الأزرق (المحدّد أصلاً من الأمم المتّحدة بشكل رسمي، وبدقّة).
يعتقد حزب الله أنّه برئيس أو من دونه، سيظلّ مُرشد الجمهورية وليس "الدولة"، التي تعاني سلسلة أزمات وانهيارات منذ 2019
يسمح الوصول إلى هذه الخطوات، بتمويل أوروبي ودعم القوات المسلّحة الشرعية في الجنوب، بالإضافة إلى مساعدات عربية لإعادة بناء ما هدّمته حرب "إسناد غزّة للدفاع عن لبنان وإحباط سيناريو الحرب الاستباقية" (حسن نصر الله)، وأخرى من الولايات المتّحدة، في تعزيز فرص الاستثمار والتمويل لقطاعات الإنتاج في لبنان. هذه الخطّة لاقت اعتراضات فورية من حزب الله، وسعى الرئيس نبيه برّي إلى "الاختباء" خلف رفض فكرة منح "يونيفيل" حرّية الحركة في الجنوب، وخلق دور موجّه دولياً للقوات اللبنانية، من دون رفض الخطّة بشكل صريح. حالة "تفريغ حذرة" فقط، للدعوة إلى انعقاد مؤتمر حوار في باريس أو قطر؛ "مجلس النواب موجود..."، مع استمرار أعمال التصعيد في الجنوب. ورغم أنّ الولايات المتّحدة وفرنسا تتداولان اللغة نفسها فيما يتعلق باتفاق محتمل، إلا أنّهما تختلفان حول ما إذا كان ينبغي ربط الصفقة بانتخاب رئيس لبنان المُقبل، ويحاول الفرنسيون عدم الربط بين القضيتَين، لذلك يُفضّل الثنائي عدم البتّ في الأمور "غير المستعجلة"، بانتظار عودة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، واستغلال موضوع الرئاسة، داخلياً وخارجياً، في التفاوض الإقليمي مع طهران، والمحور بأكمله.
يعتقد حزب الله أنّه، برئيس أو من دونه، سيظلّ مُرشد الجمهورية وليس "الدولة"، التي تعاني سلسلة أزمات وانهيارات منذ 2019، وهو يتحرّك بنشاط لتعزيز وتقوية ترسانته العسكرية، فيما يعارض الإصلاحات الضرورية التي تساعد الدولة ومؤسّساتها في النهوض من الركود العام. والتصوّر عند الحزب، أنّ إدارة الرئيس بايدن في وضع تقدّم فيه تنازلات، وتتقدّم مشاكلها مع حكومة بنيامين نتنياهو سبباً إضافياً لمزيد من "الموثوقية" بأنّها لن تسمح بتوسيع الحرب في نطاق كامل. لذلك، يبدو الحزب غير مستعجل لأيّ اتفاق تتوصّل إليه بيروت مع واشنطن وباريس، رابطاً فرضية "الصيف الحار" بسلسلة من التعقيدات والعمليات القتالية بين حركة حماس وجيش الاحتلال الإسرائيلي، ومستفيداً من تقارير متضاربة حول التنسيق بين هوكشتاين وباريس بشأن الطريقة التي يجري فيها التصرف بها مع الملف اللبناني. وهو يبدي تشدّداً في سعيه لمزيد من التنازلات، ويعتبر أنّ مسألة ترسيم الحدود "ليست مقايضة كافية" في مرحلة شبيهة بتلك التي تمّت فيها الوساطة القطرية في 2008، وقُدّمت له فيها تنازلات حاسمة؛ "الثلث المُعطّل"، في مجلس الوزراء، وسلطة "النقض" الفعّالة على جميع قرارات الحكومة، وهو تجاوزها بكثير، وبالتالي، هو ليس معنياً بالخضوع لأيّ شروط، ولا بالتنازل عن مُرشّحه للرئاسة سليمان فرنجية، ولن يبدي موافقة بالداخل تضرّ بمصالح إيران، حتَّى "لو اختفى لبنان السياسي وبقي فقط لبنان الجغرافي" (لودريان). يضاف إلى المخاوف من تأجيل الاستحقاق، عودةُ شبح الحرب الأهلية وأجواء الانقسام في الثمانينيات، وسط محاصرة الغرفة اللبنانية بالنيران من كلّ اتجاه.