ماذا وراء التطبيع مع نظام الأسد؟
مغالطة كبيرة يجري تسويقها للرأي العام، يروّجها المتحمسون لعودة نظام بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية. الأمر لا يتعلق بتاتا بعودة سورية وشعبها إلى جامعة الدول العربية، فسورية وشعبها ما كان لهما أبدا أن يغادرا هذه الجامعة، ومن اتخذ قرار طردهما أو اعتقد أن القرار الذي اتخذته الجامعة قبل 12 سنة كان يستهدفهما فهو مخطئ، تماما كمن يعتقد اليوم أن ما يحصل اليوم تصحيح لخطأ سابق إنما يرتكب خطأ مزدوجا، لأن قرار الطرد، وهكذا سُميّ، آنذاك، لم يكن يستهدف سورية البلد والشعب، وإنما كان موجّها ضد النظام السوري بقيادة بشار الأسد. أما القطيعة الدبلوماسية مع الشعب السوري التي تلت قرار جامعة الدول العربية واستمرّت طوال العقد الماضي، فتلك كانت خطأ فادحا، وربما جريمة أخرى في حق الشعب السوري، لأنه ما كان على الدول العربية التخلّي عن الشعب السوري. وحتى تكون الأمور واضحة والمواقف مسجلة، لا مكان لنظام مجرم قاتل في جامعة يفترض فيها أنها تمثل شعوب المنطقة التي تتحدّث باسمها، وما يتم ترويجه اليوم باعتباره انتصارا لهذا النظام الذي قتل نصف مليون شخص وشرّد نصف سكان سورية هو أكبر إهانة للتضحيات الجسيمة التي قدّمها الشعب السوري وخيانة عظمى لدماء شهدائه وخذلان لكل الأصوات التي خرجت تطالب بالحرية والديمقراطية في بلدٍ حوّلته أسرة الأسد إلى جمهورية وراثية يحكمها نظام قمعي بالحديد والنار.
وزراء خارجية الدول العربية الذين اجتمعوا أخيراً في القاهرة، وقرّروا بالإجماع أن قرار طرد هذا النظام من جامعتهم لم يعد مبرّرا، يتعاملون باحتقار كبير مع ذكاء الشعوب العربية عندما يتجاهلون في تصريحاتهم الجرائم الفظيعة التي ارتكبها نظام دمشق في حقّ شعبه عن عمد على مدى السنوات الماضية، بما في ذلك البراميل المتفجّرة التي كان يلقيها جيشُه على المدنيين العزّل، والأسلحة الكيميائية، التي لم يُحاكم بعد من كان وراء استعمالها، والقمع الوحشي الذي ما زال يمارسه النظام نفسه ضد مواطنيه. التطبيع مع نظام يعدّ مسؤولاً عن معاناة إنسانية لا توصَف، وعن حرب أهلية قتل فيها ما لا يقل عن نصف مليون شخص أغلبهم من المدنيين، هو مشاركة لهذا النظام في جرائمه، من دون أن يُنسى أن أغلب الأنظمة العربية تتقاسم معه جزءا من هذه المسؤولية، ليس بعد قرارها التطبيع معه وتبييض جرائمه، وإنما بسبب تواطؤها أو صمتها أو مشاركتها المباشرة في تلك الحرب الأهلية المجنونة من خلال الدعم المباشر بالمال والسلاح للمعارضات المسلحة التي كانت تقاتل باسم الدين، أو بإرسال المقاتلين المؤدلجين لتقتيل أبناء الشعب السوري. ومن المفارقات المأساوية أن بشّار الأسد الذي طُرد من جامعة الدول العربية بسبب جرائم تقتيله آلافاً من أبناء شعبه وتشريده الملايين منهم، يعود إليها على جثث الآلاف من ضحايا الزلزال الذي ضرب بلاده مستغلا التعاطف الإنساني، وخصوصا في المنطقة العربية، مع محنة الشعب السوري المنكوب، لتسريع الاتجاهات التي كانت واضحة بالفعل عند بعض الأنظمة العربية الساعية إلى تطبيع علاقاتها مع نظامه.
حتمية التاريخ لا تصنعها الأنظمة المنهزمة، وإنما الشعوب التي ترفض التطبيع مع كل أشكال القمع والاستبداد
لا تعني العودة إلى جامعة عربية ميّتة، شيئاً أصلاً، لأنّ وجودها مثل عدمه لا يغيّر أي شيء، لا أثر لفعلها طوال العشرية الماضية على أرض الواقع، ولم يسجّل لها أن أتت بفعل أو مبادرة واحدة تُحسب لها في كل الحروب المشتعلة في المنطقة من ليبيا إلى اليمن مرورا بسورية والعراق من دون الحديث عن فلسطين التي أصبحت نسيا منسيا في أضابير هذه الجامعة التي تحوّلت مجرد قوقعة فارغة لموظفين لا أحد يعرف ما يقومون به. وتطبيع الأنظمة المنضوية تحتها مع نظام مثل نظام بشّار الأسد يسيء إليها ويُفقدها ما تبقى لها من مصداقية، إن بقي لها فعلاً شيءٌ يمكن أن تصدق القول أو الفعل فيه لدى الشعوب العربية. ويكفي أن نرى اليوم ما هي الأنظمة المتحمسة إلى عودة هذا النظام المارق إلى صفوف هذا المركب الغارق، لتتّضح الصورة.
وبعيداً عن القراءات التي تحاول أن تفسّر ما يجرى بأنه جزء من تحوّل كبير داخل منطقة الشرق الأوسط يعيد بناء الاصطفافات الجديدة في المنطقة بناء على تراجع دور الولايات المتحدة فيها والوجود المتعاظم للدور الصيني داخلها، فإن ما يجري هو تبييض مرفوض لنظام مجرم قتل شعبه وشرّده، وفقد كل شرعية سياسية وأخلاقية وقانونية تسمح له بتمثيل ضحاياه في أكبر مجمع عربي. وأكثر من ذلك، ما يجري هو إعادة ترميم بناء النظام العربي القديم الذي يحاول تضميد جراحه وتبييض سجلاته من الجرائم التي ارتكبها، طوال العشرية الماضية، في حق الشعوب التي يدّعي تمثيلها. وسوف تكون صورة بشّار الأسد، إذا حضر القمّة العربية المرتقبة في السعودية، يجلس على الطاولة نفسها التي يتحلق حولها ملوك الأنظمة العربية وأمراؤها ورؤساؤها أكبر عنوان على انتصار النظام العربي القديم، نظام أنظمة القمع والاستبداد، وإعلان رسمي عن إغلاق آخر قوس للموجة الأولى من "الربيع العربي"، على وقع شبه انتصار للثورات المضادّة، في انتظار الموجات القادمة من الثورات الديمقراطية، لأن الشعوب العربية لم تقل كلمتها الأخيرة بعد، ولأن حتمية التاريخ لا تصنعها الأنظمة المنهزمة، وإنما الشعوب التي ترفض التطبيع مع كل أشكال القمع والاستبداد وتنتصر للحرية والديمقراطية.