ماذا في جعبة دي ميستورا بشأن الصحراء؟
في سياق سياسي جديد يتسم بمستجدّاتٍ تعطي للحدث أهميته. وعلى الرغم من فشل كل الوساطات التي سبقته، والتي لم تستطع حلحلة الوضع منذ بدء المسار التفاوضي أوائل تسعينيات القرن الماضي، نظراً إلى تمسّك كل طرف بمواقفه، أدّى، أخيراً، مبعوث الأمم المتحدة للصحراء المغربية، ستيفان دي ميستورا، جولته الأولى على أطراف النزاع، بدأها بالرباط قبل الذهاب إلى الجزائر ثم نواكشوط، في محاولة قد تكون الأخيرة لحل هذا المشكل المزمن الذي لم يعد ثمّة أي مبرّر لاستمراره، في ظل المتغيرات الجيوستراتيجية التي عرفها العالم عامّة والمنطقة المغاربية بشكل خاص.
نبدأ بالمستجد التي ما فتئت جبهة بوليساريو الانفصالية ترويجه بدعم واضح من الإعلام الجزائري، وهو قرار إنهاء وقف إطلاق النار يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، واستئناف القتال المسلح ضد القوات المغربية المرابطة على تخوم الصحراء المغربية، وهو القرار الذي لا تملك قيادة "بوليساريو" البتّ فيه من دون إذن مسبق من القيادة الجزائرية، إذ، على الرغم من مرور سنة ونيف على هذا القرار الأخرق، لم نسمع عن أي إنجاز عسكري يُذكر للجبهة سوى بياناتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع، في وقتٍ استرجع فيه المغرب سيطرته الكاملة على معبر الكركرات الحدودي مع موريتانيا، واحتفظ فيه بالوضع العسكري القائم على الميدان منذ سنوات، وانفضحت ادّعاءات الجبهة الانفصالية، وانفجرت فقاعتها الإعلامية، حين انفضحت الصور المفبركة التي كانت تروّجها، وهكذا استطاع المغرب تعزيز موقفه عسكرياً بعدما تم تعزيزه دبلوماسياً من قبل.
المستجد الثاني، ويضم عدة نقاط، نلخص فيها الانتصارات الدبلوماسية التي حققها المغرب. الأولى، وهي الأهم، الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، وهو القرار التي كانت تطمع الجزائر وصنيعتها بوليساريو في أن تتراجع إدارة الرئيس الأميركي بايدن عنه، بعد مغادرة سلفه ترامب البيت الأبيض، لكن هذه فضلت الإبقاء على الوضع الراهن من دون تحريكه، مع الإبقاء على بعض الغموض (حتى نكون منصفين) للتمكّن من القيام ببعض ضغوط على المغرب، وهو ما حصل، عندما رفضت الرباط تعيين دي ميستورا قبل أن تقبل به، إلا أن الموقف الأميركي المؤيد للرباط ظهر واضحاً في مجلس الأمن، وبالضبط عند اقتراح مشروع القرار 2602 الذي صدر في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، حيث بقيت واشنطن متمسّكةً بنص مقترحها، على الرغم من المحاولات الروسية تغييره.
زيارة ديمستورا لا يُعوّل عليها الكثير، لأن الهدف منها لا يتعدى جسّ نبض كل الأطراف، لقياس مدى استعدادهم لاستئناف المفاوضات
النقطة الثانية مصادقة مجلس الأمن على القرار بأغلبية 13 صوتاً وامتناع روسيا وتونس عن التصويت، وقد ثمّنه المغرب وأشاد به، بينما ندّد به خصومه، وقد مدّد المجلس، بموجبه، تفويض بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في الصحراء (المينورسو) عاماً آخر حتى 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، كما اعتبر المقترح المغربي عملياً وواقعياً وذا مصداقية، ما يجعله أساس أية مفاوضات مقبلة بين الأطراف المتنازعة، وبذلك حقق المغرب انتصاراً دبلوماسياً آخر في الأمم المتحدة.
النقطة الثالثة، تَغيُّر الموقف الألماني، بعد وصول المستشار أولاف شولتز إلى السلطة، من المناوءة إلى الحياد إن لم نقل التأييد، فألمانيا التي ترغب في تحسين علاقتها مع المغرب اعتبرت في رسالة وجهها الرئيس الألماني إلى الملك محمد السادس مخطط الحكم الذاتي المقدم من المغرب سنة 2007 ذا مصداقية وأساساً جيداً للوصول إلى اتفاق. وإذا علمنا ثقل ألمانيا وتأثيرها داخل الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الموقف الفرنسي المؤيد للرباط منذ سنوات، يمكن أن نتنبأ بتغيير مواقف أخرى داخل دول الاتحاد، قد يدفع، في الأخير، إسبانيا إلى تعديل موقفها هي الأخرى.
النقطة الرابعة، فتح 25 قنصلية أجنبية أبوابها في حاضرتي الصحراء المغربية، العيون والداخلة، وهما عاصمتا إقليمي الساقية الحمراء ووادي الذهب، ما يعزّز الاعتراف الدبلوماسي بمغربية الصحراء، ويجعله واقعاً ملموساً، خصوصاً أن فتح هذه القنصليات تم من دون أي تنديد دولي من كبرى عواصم العالم التي أصبحت، في مجملها، تؤيد مقترح الحكم الذاتي الذي وضعه المغرب على طاولة المفاوضات منذ سنين، ومن دون أية ردّة فعل من الهيئات الدولية، سوى من خصوم المغرب المعروفين. وأخيراً، وهي نقطة خامسة، لا ينسى ما جاء في بيان قمة مجلس التعاون الخليجي في الرياض، أخيراً، من تأييد واضح لمغربية الصحراء.
لم يعد أي مبرّر لاستمرار مشكل الصحراء المزمن، في ظل المتغيرات الجيوستراتيجية التي عرفها العالم عامة
يدفعنا هذا إلى الحديث عن المستجد الثالث، التوتر الكبير بين الرباط والجزائر وقطع العلاقات الدبلوماسية بينهما، علاوة على اتخاذ الجزائر خطوات تصعيدية، منها قرار قطع إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر المغرب، مع الاستمرار في رفض فتح الحدود بين البلدين الشقيقين، ما يعدّ ردة فعل انفعالية على الانتكاسات الدبلوماسية والعسكرية التي تلقتها الجزائر على أرض الواقع. أما الحديث عن العلاقات المغربية الإسرائيلية فهو من باب الكلمة الحق التي يراد بها الباطل، فلو حُلّت قضية الصحراء لما وجد المهرولون إلى التطبيع حجّة للتبرير.
في هذه الظروف، ومع هذه المعطيات الجديدة على أرض الواقع، جاءت زيارة المبعوث الأممي، دي ميستورا، المنطقة في محاولة لإعادة قطار التفاوض إلى سِكّته، وهي زيارة لا يُعوّل عليها الكثير، فالهدف منها لا يتعدى جسّ نبض كل الأطراف، لقياس مدى استعدادهم لاستئناف المفاوضات قبل الوصول إلى مرحلة بناء الثقة وإظهار الجدّية والرغبة في الوصول إلى الحل. وإذا كانت "بوليساريو" استبقت الزيارة بانتقادات حادّة للأمم المتحدة، فإن المغرب أبدى استعداده لاستئناف المفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة، وعلى أساس مبادرته للحكم الذاتي، مشترطاً أن تجرى المفاوضات في إطار موائد مستديرة، تشارك فيها الأطراف الأربعة، أي بحضور موريتانيا والجزائر. ويبقى التحدّي قبول هذه الأخيرة في المشاركة فعليا في المفاوضات، بينما هي لا تريد ذلك، حتى تبقى وراء الستار، وتفضل اللعب بخيوط الكراريز.
يحظى دي ميستورا بحنكة سياسية كبيرة، وبتجربة طويلة عريضة، اكتسبها في مناطق أكثر فتنة واشتعالاً، مثل أفغانستان والعراق وسورية ورواندا ولبنان ويوغوسلافيا، يتكلم سبع لغات، منها العربية، تسمح له بالتواصل المباشر مع كل الأطراف المعنية بالنزاع ومعرفة خبايا الأمور، سوى هذا، ماذا يمتلك الرجل، وماذا في جعبته لتحقيق ما فشل فيه أسلافه الأربعة؟ الله أعلم.