ماذا فعل السياسيون لملفّ المعتقلين في مصر؟
طالبتُ في مقال سابق في "العربي الجديد" جماعة الإخوان المسلمين بفصل الملف السياسي عن الحقوقي، واعتبرت أن الربط انتهى إلى فشل ذريع. ويتوجّه هذا المقال بالمطالب نفسها إلى غيرها من الأحزاب والقوى السياسية في مصر وخارجها، فالارتقاء بالملفّ الحقوقي ورفعه عن الخلافات السياسية هما جوهر العملين الحقوقي والإنساني، وهو ما سيبقى في مصر حال زال النظام (الفاشل) وكُسرت عشرية القهر والطغيان وحقبة الاستبداد المتوحشة، التي أغرقنا فيها. وأُذّكر بأن البعد الحقوقي كان، في خضم هيمنة نظام حسني مبارك، يرتبط بالجوانب الإنسانية والقيمية، ويترفع عن الخلافات السياسية والأيديولوجية، ويتجاوز الرغبة في الكسب المالي وتحقيق النفع، كان المعتقلون في التظاهرات (التي لا تتوقف) على اختلاف هوياتهم يجدون كل الدعم من كل الأطياف. لم يفصل أحد بين معتقل وآخر، كانت الضغوط الحقوقية بمثابة غطاء حماية للجميع.
أفهم أن تسييس هذا الملف يرتبط بانكسار المجتمع في 2013، وحدوث شرخ رأسي بطول البلاد وعرضها، على غرار شرخ زلزال تركيا وسورية، لكن مصر لم تتحرك بين ثلاثة أو أربعة أمتار نحو الغرب أو الشرق، كما تركيا، ولكنها تحرّكت عشرات السنين نحو عهود الظلم والظلام والقهر البالية. ربما الرمز السياسي الوحيد الذي تجرّأ على المطالبة بفصل الحقوقي عن السياسي، ولو بشكل غير مباشر، هو يحيى حسين عبد الهادي، الذي طالب الحركة المدنية بالسموّ بمواقفها عن مستوى التعبير عن حركتها وتيارها فقط إلى التعبير عن الجميع، بمن فيهم المختلفون معها ومن دون انتظار تفويضٍ منهم. وشدّد على أن مكافحة الظلم لا تحتاج إلى تفويض، وأضاف: "أتحدّث عن الإخوان تحديداً، عالماً أن الحديث الرحيم عنهم يجلب المشكلات". وجاءت دعوة عبد الهادي بعد أيام من لقاء أربعة ممثلين حقوقيين بوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في القاهرة، والذي قدّم خلاله الصحافي خالد داود، المتحدث باسم التيار المدني (أُفرج عنه في 13 إبريل/ نيسان 2021 بعد أن أمضى 19 شهراً في الحبس الاحتياطي) قائمة بـ 30 اسماً فقط للمطالبة بالإفراج عنهم، في ملفٍّ يعج بعشرات الآلاف من المعتقلين، بينهم مئات النساء والأطفال!
ربما جاءت دعوة عبد الهادي كرد فعل على قائمة خالد داود الذي لم يقف عند حد تقديم تلك القائمة وفقط، وإنما تطوّع لتوضيح أسباب تقديمه أسماء هؤلاء الثلاثين وحسب في مقاله عريضة نشرها ردّاً على دعوة عبد الهادي، وكأن هؤلاء فقط يستحقّون العفو والحرية، وغيرهم يستحقّ الاعتقال والسجن والتنكيل والتشريد والمنع من الزيارة عقداً كاملاً. الفكر الإقصائي المغلق لمثل هذه النماذج، وإن كان مغلفاً بالليبرالية، هو الذي أطاح ثورات الربيع وأعاد الدول القمعية إلى الحياة، بعد إزاحتها، وضخّ الدماء السوداء في شرايينها مجدّداً، ومنحها القوة والعنفوان.
الفكر الإقصائي المغلق، وإن كان مغلفاً بالليبرالية، هو الذي أطاح ثورات الربيع وأعاد الدول القمعية إلى الحياة
بنظرة وخلفية إقصائية، تجرّأت الحركة المدنية على تصنيف المعتقلين السياسيين في مصر داخل السجون، وهو إجراءٌ تجاوزته الأجهزة الأمنية التي وضعتهم، على اختلاف هوياتهم، في زنزانة واحدة وعنبر واحد، وتجاوزته النيابة التي اتهمت أعضاء التيار المدني (ومنهم خالد داود) إضافة إلى "تهمة" نشر أخبار كاذبة، بمساعدة الإخوان المسلمين. والسؤال هنا: ما هو الأهم بالنسبة للحركة المدنية كتيار سياسي: وضع ملف ببضع عشرات من أسماء المعتقلين السياسيين الذين يجب الإفراج عنهم، أم وضع تصوّر وتقديم بدائل سياسية لوزير الخارجية الأميركي لحل المعضلة السياسية في البلاد.
سمعت كثيراً خلال محادثاتي ومناقشاتي مع عديدين من ممثلي الخارجيات والبعثات الدبلوماسية سؤال وماذا بعد؟ وما هو البديل؟ وكيف يكون السبيل والطريق إلى أسس الاستقرار في مصر؟ وكان ردّي عليهم: إننا حقوقيون، لا تسألونا عن ذلك، اسألوا السياسيين.
قوائم الحركة المدنية للمعتقلين دليل آخر على جمود العمل السياسي في مصر، وأن تلك الحركة مثل غيرها من الحركات والتيارات السياسية، رغم حداثة نشأتها (نشأت في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2017) أصابها التصلّب والتكيّس، إضافة إلى التزامها بمسار الاستئناس، فلم تجد ما تقدّمه في الإطار السياسي، فأقحمت نفسها في الملف الحقوقي وملف المعتقلين بسقفٍ منخفض، وانحياز إقصائي، من دون الالتفات إلى عشرات الآلاف من المعتقلين، الغالبية العظمى منهم من غير المصنّفين أساساً، والذين اعتقلوا بسبب وجودهم في أماكن التجمّعات قدراً، علماً أن أبحاثاً أجراها المعتقلون كشفت أن عدد معتقلي الإخوان المسلمين لا يتجاوزن نسبة 40% من إجمالي أعداد المعتقلين.
سؤال آخر: كيف يمكن الوثوق بعمل تلك الحركة ودورها في مستقبل مصر، وهي تتعامل في ملفٍّ إنسانيٍّ بحت، مثل ملف المعتقلين بمنطق التمييز والتصنيف! فلو كانت الحركة المدنية في مصر الآن تتفاوض مع النظام من أجل الإفراج عن مواطنين محدّدين دون آخرين، فماذا سيحدُث في الوضع السياسي (إذا أتيحت لهم الفرصة): هل سيتحرّكون بالكيفية نفسها؟ علماً أن الحركة أعلنت، في المؤتمر الصحافي لإعلان بيانها التأسيسي، مبادئها التي تقوم على وضع أسس الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة ومقوماتها، دولة المواطنة، عبر التطبيق الصارم لمواد الدستور والقانون على الجميع، بلا تمييزٍ فيها على أساس الدين أو العرق أو الطبقة أو الفئة أو النوع.. الشعبُ فيها هو السيد، والحاكم هو الخادم الذي يخضع للمحاسبة عَبْر برلمانٍ حقيقىٍ لا تشارك في صُنعِه أجهزة الدولة.
لا يجب أن نتساوى مع النظام، الذي ربما ينفذ وعداً بالإفراج عن معتقل بعد مرور سنة وسنتين وكأنها مدة لا تساوي يوماً أو يومين
تحاول الحركة المدنية أن تبني أي انتصار، ولو هامشياً، ولو كان على حساب المعتقلين، مثل الانتصار المزعوم الذي انتهت إليه مشاركتها في إفطار رمضان العام الماضي (2022)، بعودة ملف العفو السياسي، وتفعيل لجنة الحوار الوطني، الذي كان الدافع إليه أساساً قرب استضافة مؤتمر المناخ، كما اقتصرت المحادثة الشهيرة والمصافحات والابتسامات بين أحد رموز التيار وعبد الفتاح السيسي على طلب الإفراج عن شخص واحد. ورغم أن الحركة تعتبر المواثيق الدولية لحقوق الإنسان مرجعيتها، كما جاء في بيانها التأسيسي، يظلّ موقفها الحقوقي براغماتياً إقصائياً، مقتصراً على رموزٍ من أنصارها والمحسوبين عليها، بزعم محدودية السقف المتاح.
المهندس ممدوح حمزة والذي عاد إلى مصر مؤخراً، انتقد الحركة لحظة تأسيسها ووصفها بحركة معارضة متوافقة مع الأجهزة الأمنية، وأنها قامت استباقاً لتأسيس جبهة أخرى "أكثر جرأة وثورية"، تحمل اسم "حركة التضامن المدنية الوطنية". فكيف يجتمع التوافق الأمني وانتقاد وضع الحريات؟! بينما تحفّظ حزب مصر القوية بداية على المشاركة، وعلّل موقفه بالطابع الإقصائي للحركة.
لا تتوافق حقوق الإنسان والإقصاء، الضامن الوحيد لملف المعتقلين السياسيين هو التيار الحقوقي المصري الذي يتألف من حركة حقوق الإنسان المصرية المستقلة ومدافعين عديدين عن حقوق الإنسان في الداخل والخارج، والذين اعتبروا مبادئ حقوق الإنسان مرجعية واقعية لا مجرّد شعارات، واستطاعوا التحرك بهذا الملف، وجعلوه ركيزة أساسية في الشراكات الخارجية، وصمدوا أمام ضغوط الداخل التي تجاوزتهم لتطاول عائلاتهم، والأمثلة على ذلك أكبر من أن تحصى.
قوائم الحركة المدنية للمعتقلين دليلٌ على جمود العمل السياسي في مصر، وأن تلك الحركة مثل غيرها من الحركات والتيارات السياسية
نقطة أخرى في معرض الحديث عن أهمية فصل الملف الحقوقي عن المأزق السياسي في مصر، أنه يجب ألا يشغلنا ملف الانتخابات المقبلة، وطموحات التجييش لها على اعتبارها أمل التغيير السلمي، على أمل تكون تعدّدية ونزيهة، وليست صورية بغيضة، كما جرى في التمثيليتين السابقتين، عن حقوق المعتقلين المهدرة.
لا يجب أن نتساوى مع النظام، الذي ربما ينفذ وعداً بالإفراج عن معتقل بعد مرور سنة وسنتين وكأنها مدة لا تساوي يوماً أو يومين. مرور عقد على الاعتقالات، وكثير من المعتقلين باتوا طاعنين في السن، يعني حدوث طفرة مفترضة في أعداد الوفيات، وكلما طال الوقتُ ترسّخت في أذهان كثيرين مطالب الثأر من النظام العسكري الذي حفر أخدوداً قمعياً سيقف حائلاً بين مطالب الصفح من ناحية، ومن ناحية أخرى تجاه المجتمع الذي صمت وانشغل بمشكلاته الحياتية عن كوادر وناشطين كل جريرتهم أنهم حاولوا أن يعيدوا إلى الشعب حقوقه المهدرة، ويضعوا قاطرته على طريق الديمقراطية والتقدّم، فنسيهم الشعب، تماماً، كما نسيهم العسكر في السجون المغلقة، وربما نسي أطفالهم ملامحهم، بعد أن انقطع التواصل معهم منذ سنوات طويلة.
وأخيراً، سيبقى النظام المصري الراهن السيسي الأكثر وضوحاً في انتهاكاته السافرة لحقوق الإنسان في تاريخ مصر الحديثة، وسيمثل الارتهان له نقطة سوداء ستمسّ الجميع، وسيمثل تجاوز الخطوط التي يرسمها. وتقييد حركته عبر كل الطرق والأدوات القانونية المتاحة خارجياً وداخلياً نقطة الضوء الوحيدة بين أنقاض دولة 3 يوليو وجرائمها.