ماذا تغيّر في المشهد الحزبي المغربي؟

02 مارس 2023
+ الخط -

يُثير المشهد الحزبي المغربي اليوم أسئلة عديدة، يرتبط بعضها بالنظام السياسي وصور علاقاته بهذا المشهد، وبمختلف القِيم والمبادئ التي تُّحَدِّد أشكال حضوره في المجال العمومي. ويرتبط بعضها الآخر بالمواقف التي تملأ فضاءات التواصل الاجتماعي عنه، حيث برزت، في السنوات الأخيرة، معطياتٌ تؤشّر إلى نفور الشباب منه، ومن العمل السياسي المؤسّسي، مع حرص متفاعلين كثيرين داخل هذه الفضاءات على تشخيص أعطاب الأغلبيات الحكومية المُتعاقِبة، ونقد عجز المعارضات عن تقديم بدائل للخيارات والبرامج، التي جرى ويجري تنفيذها.

يسجّل الملاحظ السياسي، إضافة إلى ما ذكرنا، عجز أغلبيات العهد الجديد عن تجاوز تركة الحكومات التي تعاقبت في المغرب، منذ التحاقه بموجة الانفجارات، التي عرفتها أقطار عربية عديدة سنة 2011، فيما يسمّى زمن الثورات العربية والربيع العربي، حيث قاد حزب العدالة والتنمية الأغلبية الحكومية بعد انتخابات 2011 و2015، من دون أن يتمكّن طوال عقد، لا من مغالبة الاستبداد ولا مواجهة الفساد. ولم تُسعفه براغماتيته من التخلص من طابعه الدَّعوي المحافظ، ولا من الشطط الشعبوي، الذي دفعه، في النهاية، للانخراط، وهو على رأس الحكومة في تنفيذ مهام سياسية لا علاقة لها بالشعارات التي تَغَنَّى بها قبل وصوله إلى السلطة، الأمر الذي أطّر، إضافة إلى عوامل أخرى، عملية تراجعه الساحق في انتخابات 2021. ويعرف الجميع أن صعوده وتراجعه حصلا ضمن سياقات وشروط، نتصوَّر أنها ما تزال في كثير من أوجهها غامضة.

مشهد حزبي يتّجه إلى التخلص اليوم من أعباء لغة وخطابات وفاعلين، لم تعد تُسعفهم أنماط العمل الموروثة من أحزاب الحركة الوطنية، في عمليات تدبير شروط مجتمع جديد

تتغيّر الحكومات والأغلبيات في الأنظمة الديمقراطية بمعيار الانتخابات التي تحصل وِفْق قوانين وإجراءاتٍ يتم التوافق عليها بين الأحزاب. ويحصل ذلك في المغرب أيضاً، حسب مقتضيات الديمقراطية وقواعدها وطقوسها، كما استأنس بها الفاعل السياسي المغربي .. لكن ماذا يمكن أن نقول اليوم عن المشهد الحزبي المغربي في العهد الجديد؟ أتصوَّر أن لحظة مركّبة من أزيد من عقدين، داخل دائرة الزمن السياسي الذي سبقها والزمن المُنتَظَر بعدها، تضعنا أمام أسئلةٍ مُعقَّدة، أسئلة النظام السياسي والأحزاب، وأخرى تخصّ مختلف الفاعلين في الفضاء العمومي، بحكم أنهم يشكّلون هامشاً مرتبطاً بمراكز العمل السياسي ومؤسساته .. ومن دون إغفال السياقات المحلية والإقليمية والدولية، والأحداث غير المتوقعة المرتبطة بكل ما سبق.. إن الوعي بطبيعة ما ذكرنا، من تَدَاخُل اَثَرِ الأطراف المُتعدِّدة في ترابطها واشتباكها، يتيح إمكانية تركيب جواب عن سؤالنا.

تغيرت أمور كثيرة في المشهد الحزبي، والمشهد المؤطر للنظام السياسي المغربي بِرُمَّتِه خلال العقدين المنصرمين من القرن الجديد، وذلك على الرغم من كل ما يمكن أن يتراءى للفاعل السياسي.. تتغيّر الرؤية وتتنوّع حسب مواقف الرائي، وزاوية نظرته إلى التفاعلات الجارية في المشهد السياسي .. ولا نتردَّد في القول إن رؤية النظام الملكي ذاته، ونظام العمل الحزبي المنخرط في العمل في فلكه تغيّرت بدورها، حيث نشأ جيل جديد من الفاعلين في النظام، وفي أغلب الأحزاب القديمة، رغم أنها ما تزال تحمل أسماءها، بكل التركة الرمزية المرتبطة بها، حزب الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حزب التقدّم والاشتراكية، الحركة الشعبية ... إلخ. كما أن أحزاباً أخرى جديدة تشكّلت وأخرى اختفت، وقد اختفت أيضاً، تكتلات حزبية وظهرت أخرى، وقعت انشقاقات جديدة، وبرزت مبادرات ومشاريع كتل حزبية جديدة.. وداخل دوائر المشهد الحزبي، يواصل اليسار تشرذمه، ويظل النظام السياسي فاعلاً بحساباتٍ بعضُها واضحٌ ومُعلَن، وكثير منها يرتبط بحساباتٍ ظرفية مُحدَّدة. ظل النظام السياسي حاضراً في قلب أهم المخاضات والتحوّلات التي برزت في تضاريس المشهد الحزبي المغربي، وظلّ المشهد الحزبي يتغير ببطء وِفْق خطط مرسومة.

وَجَّه النظام السياسي المغربي في بدايات العهد الجديد نداءً للأحزاب، دعاها فيه إلى ضرورة تطوير العمل الحزبي، من أجل تجديد النخب السياسية، وذلك بحكم المستجدّات التي ترتبط بمجتمعنا وبمتطلبات عالم يتغيَّر .. لكن كيف تتجدّد النخب؟ نفترض أن هذه المهمة تتعلق بالأحزاب وبمؤسّسات المجتمع المدني، إلا أن الصراع السياسي والحزبي في المغرب، ظَلَّ يتخذ صوراً يحضر فيها النظام، بصور تُبْرِز عدم استقلالية المجال السياسي والحزبي عن أعين الدولة وإرادتها وأجهزتها، ويطرح هذا الأمر إشكالات لها علاقة بتطوُّر العمل الحزبي في بلادنا، منذ بداياته الأولى في أربعينيات القرن الماضي.

نشأ جيل جديد من الفاعلين في النظام، وفي أغلب الأحزاب القديمة، رغم أنها ما تزال تحمل أسماءها، بكل التركة الرمزية المرتبطة بها

يوضِّح ما كنا بصدد الحديث عنه أن المشهد الحزبي لم يتغير، فقد تشكَّل حزب الأصالة والمعاصرة في العهد الجديد بأصابع مركّبة وهوية مركّبة. وتَمَّ إنشاؤه لإصابة أكثر من هدف، كما نشأت أحزاب أخرى، وأصبحنا، في النهاية، أمام مشهد حزبي جديد، مقارنة مع المشهد الحزبي المغربي في سبعينيات القرن الماضي، مشهد حزبي يتّجه إلى التخلص اليوم من أعباء لغة وخطابات وفاعلين، لم تعد تُسعفهم أنماط العمل الموروثة من أحزاب الحركة الوطنية، في عمليات تدبير شروط مجتمع جديد، وفي ظل نظامٍ يتطلَّع بدوره لإشراك فاعلين جُدد في مجتمع متغيّر .. وإذا كان هناك من يتصوَّر أن المشهد الحزبي المغربي، وهو يحمل أسماء ترتبط بسياقاتٍ مُحدَّدةٍ في تاريخنا المعاصر لم يتغيّر، فإنه لا يرى جيداً ما جرى في السنوات الأخيرة في قلب التشكيلة الحزبية، منذ نفض الفاعلون السياسيون أيديهم من مشروع النضال الديمقراطي، وانخرطوا في الحلم مع الحالمين بنموذج تنموي يكون بإمكانه وَضْع المغرب في طريق التنمية!

لم ينتبه أحدٌ إلى طبيعة الفاعلين السياسيين الجدد، الذين أصبحوا يملأون مقرّات هذه الأحزاب وفضاءاتها، فقد أصبحنا اليوم أمام جيل جديد من القادة والكوادر بمواصفات خاصة، قادة جُدُد لم يعد بإمكانهم مواكبة المتغيرات الجارية، لا بالتحليل والفهم، ولا بالعمل والمشاركة. ولهذا نقول اليوم من دون تردد، أن أغلب برامج الأحزاب السياسية تشابهت في مشهدنا السياسي، واختفى اليمين واليسار والوسط، كما اختفى المحافظون القدامى والجدد، واصْطَفَّ الجميع من دون مرجعيةٍ نظريةٍ محدَّدة، في انتظار النموذج التنموي الذي لم يستطع بناء ما يُسْعِف بمواجهة الفساد وتحقيق التنمية .. نُعاين ذلك اليوم، في وقتٍ بدا فيه أن النظام وحده يقود الحياة السياسية، بموافقة الجميع ورضاهم. وهذا الأمر بالذات، لا علاقة له بمكاسب دستور 2011، ولا بمكاسب العمل الحزبي في مجتمعات الديمقراطية.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".