ماذا بقي من حركة 20 فبراير المغربية؟
قبل عشر سنوات، شهد المغرب أكبر حركة شعبية احتجاجية خرجت في عدة مدن وقرى لعدة أسابيع، واعتبرت بمثابة التعبير المغربي عن تأثره بموجة "الربيع العربي". ومنذ البداية رفعت الحركة الاحتجاجية التي قادها الشباب، في أول الأمر، شعاراتٍ إصلاحية تطالب بملكية برلمانية، وبوضع حد للفساد وبالعدالة الاجتماعية. ونجحت الحركة، منذ أسبوعها الأول، في إيصال صوتها عندما استجاب الملك لمطالبها في خطابٍ شهير، أعطى فيه وعودا بالاستجابة لمطالب المحتجين، ما أعطى الحركة زخما كبيرا، وأشاع تفاؤلا عريضا داخل أوساط المجتمع بالتغيير السلمي وتحسين الأوضاع في ظل الاستقرار. وسرعان ما التحقت الأحزاب السياسية، التي قاطعت الحركة وحاربتها في بداية خروجها، بركبها في انتهازية واضحة، وتبنّت خطابها، ورفعت شعاراتها في حملاتها الانتخابية. لكن بعد مرور عشر سنوات على تلك الحركة، ما الذي تغير؟ وكم تحقق من مطالبها؟ أو لماذا لم تتغير الأوضاع كما كانت تطالب بها شعارات تلك المرحلة التي تبنّاها الجميع، القصر والأحزاب والمجتمع؟
بعد عشر سنوات من نزول الاحتجاجات المطالبة بالتغيير إلى شوارع المدن والقرى المغربية، ما زالت مطالب المحتجين تجد راهنيتها في وضع اقتصادي واجتماعي يزداد سوءا يوما بعد يوم، تجسّده مظاهر الفقر التي تعيشها كثير من مناطق المغرب وفئات واسعة من أبناء شعبه، وتعبر عنه الحركات الاحتجاجية المطلبية التي تخرج، بين الفينة والأخرى، في كل مناطق المغرب بدون استثناء، وتشمل العاملين والموظفين والعاطلين. وفي إطلالة سريعة على تقارير عديدة لمنظمات دولية ذات مصداقية، يمكن الخروج بخلاصةٍ مفادها أن المغرب يشهد نزوعا نحو تفاقم أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، بسبب استشراء الفساد، وتدنّي مستوى الخدمات، وتراجع كثير من الحقوق والحريات، فآخر تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية يتحدث عن أن المغرب دخل "منطقة فساد مزمن"، بسبب غياب إرادة سياسية حقيقية لمحاربة هذه الآفة التي تنخر المجتمع. وقبل أيام فقط، صنفت مؤسسة بحثية بريطانية متخصصة في الأبحاث والتحليل، "وحدة الاستخبارات الاقتصادية"، المغرب ضمن الأنظمة الهجينة غير الديمقراطية، التي تجمع بين السلطوية والمؤسسات الديمقراطية الشكلية.
الأسباب التي أدّت إلى نزول الناس إلى الشوارع عام 2011 ما زالت قائمة، من فقر وفساد وفوارق اجتماعية وغياب المحاسبة والشفافية
ومقابل هذا الوضع، نجد أن المغرب ما زال يُنظر إليه على أنه من بين دول عربية تُعد على رؤوس الأصابع، عرفت كيف تتفاعل مع احتجاجات الربيع العربي بأسلوبٍ جنّبها مشكلاتٍ كثيرة أسقطت أنظمة سياسية، وعصفت بدول ومجتمعاتها، وتسببت في مشكلاتٍ كبيرة لدول أخرى ما زالت تتخبط فيها، فما حصل في المغرب هو نوع من الالتفاف الناعم على مطالب الحركة الاحتجاجية عن طريق إطلاق وعود مغرية لم يتحقق أغلبها، أو تجسد بشكل مشوّه، قبل أن تستعيد السلطة زمام الأمور، وتعود لتمسك بقوة هذه المرّة بناصية الدولة والمجتمع، وذلك من خلال عدة أساليب، من قبيل إقامة مؤسسات هجينة منتخبة، ولكن متحكّم فيها، وشراء ولاءات مثقفين وناشطين بواسطة مناصب أو مسؤوليات وهمية، وتقوية أجهزة المراقبة الأمنية التي باتت تُحصي أنفاس الناس، واعتقال الأصوات المزعجة غير القابلة للتطويع، خصوصا في صفوف الصحافيين والناشطين المدنيين، وقمع الاحتجاجات الشعبية العفوية التي تظهر بين الفينة والأخرى، والفضاء الوحيد الذي ما زال خارج السيطرة الكلية لمراقبة الدولة وأجهزتها هو الفضاء العام الافتراضي الذي يسمح، حتى الآن، بظهور بعض الأصوات المنفلتة التي تنتقد الأوضاع، وأغلب أصحابها وأكثرهم جرأة يعيشون خارج المغرب.
وإذا كان الحراك الشعبي الكبير، في صيغته الأولى، كما عرفه المغرب إبّان فترة الربيع العربي، قد فقد سمته الأساسية المتمثلة في مظاهراته الشعبية الضخمة التي اختفت، من دون أن تنتهي، فإن مطالبه ما زالت آنية وقائمة، يتردّد صداها في كل الاحتجاجات التي شهدها المغرب خلال العقد الأخير. فما حصل خلال السنوات العشر الماضية أن الدولة في المغرب قوّت جهاز مناعتها ضد الحركات الاحتجاجية التي تكرّرت موجاتها خلال العقد الماضي، وكانت أكبرها وأقواها وأكثرها تنظيما الحركة الاحتجاجية التي شهدتها منطقة الريف في أقصى شمال المغرب، وانتهت بقمع قاس واعتقالات كبيرة ومحاكمات وصفت بأنها غير عادلة ما زال ضحاياها في السجون.
صنفت مؤسسة بحثية بريطانية متخصصة في الأبحاث والتحليل المغرب ضمن الأنظمة الهجينة غير الديمقراطية
أما الأسباب التي أدّت إلى نزول الناس إلى الشوارع عام 2011 فما زالت قائمة، من فقر وفساد وفوارق اجتماعية وغياب المحاسبة والشفافية، وكلها عوامل تفاقمت خلال العشرية الأخيرة، والاستجابة الوحيدة التي طورتها الدولة لمواجهة هذه الآفات التي تنخر كيانها من الداخل هي المقاربة الأمنية، للحفاظ على نوع من السلم الاجتماعي الزائف، وهو ما يصفه اليوم مراقبون كثيرون، تجاوزا، بالاستقرار السياسي، وهو شكل من التوصيف السياسي الذي دأب على استعمال مفارقات لفظية لاختزال الوضع في المغرب منذ عهد الحماية حتى يوم الناس هذا. فإبان فترة الحماية الفرنسية، استعمل المعمّرون تعبير "المغرب النافع" و"المغرب غير النافع"، للتمييز بين مغرب غني يتطور لمصلحة المعمر وآخر فقير تم تهميشه. وفي عهد الملك الراحل الحسن الثاني، كانت المعارضة اليسارية تصف المغرب بأنه بلد المفارقات، أي مغرب تتمايز فيه الطبقات ما بين طبقة الفقراء التي تتسع رقعتها مع مرور الوقت، وطبقة الأغنياء التي يزداد أعضاؤها غنى على غنى، أما في عهد الملك الحالي فقد تعمقت هذه المفارقات بين الأغنياء والفقراء، وأصبح بعض المراقبين الأجانب، خصوصا الغربيين، يصفون المغرب بأنه بلد المظاهر، في إشارة إلى كل المظاهر الشكلية، مؤسساتية أو عمرانية، التي تخفي وراءها المفارقات التي ما زالت تتعمق، منذرة باندلاع حركة احتجاجية جديدة أو مبادرة انفراج سياسي للتخفيف من قوة الضغط وتأجيل لحظة الانفجار، ربحا لوقت إضافي ليس إلا.. وهذا ما حصل وتكرر في تاريخ المغرب القريب، حتى قبل فترة الربيع العربي وبعدها.