ماذا بقي من أردوغان 2013؟
استعدادًا لانتخابات رئاسية على الأبواب، يمد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يدًا إلى بشار الأسد والأخرى إلى عبد الفتاح السيسي، باحثًا عن مصالحة مع نظامين كان يعدّهما نقيضه على طول الخط.
الحاصل في هذه اللحظة المدهشة في تناقضاتها أن الطرفين، المصري والسوري، يتمنّعان أو بالحد الأدنى غير مرحبين بهذا الانفتاح الرئاسي التركي الذي يخطب ودّهما، وبحسب ما نقلته وكالة رويترز للأنباء نهاية الأسبوع الماضي عن ثلاثة مصادر، فإن النظام السوري يقاوم جهود وساطة تقودها روسيا لعقد قمة مع الرئيس التركي، بعدما كان يبدو التقارب التركي مع نظام بشّار الأسد في حكم "المستحيل" في المراحل المبكرة من قمعه الثورة السورية. وكشفت الوكالة ذاتها أن مصدرين تركيين، أحدهما مسؤول كبير، قالا إن النظام السوري يُرجئ الأمر فحسب، وإن الأمور تسير في طريقها نحو عقد اجتماع في نهاية المطاف بين الأسد وأردوغان.
الأمر نفسه، وإن بدرجةٍ أقل من التمنّع، تجده في المواقف الرسمية المصرية من السعي الرئاسي التركي الحثيث إلى إبرام اتفاق مصالحة يتأسّس على المصالح السياسية والاقتصادية، وهو ما بدأه أردوغان منذ فترة بعيدة نسبيًا بعد أن تصالح مع الإمارات، وخرج بعدها بتصريحاتٍ يقول فيها إنه يريد اتفاقًا على الطريقة نفسها مع كل من تل أبيب والقاهرة. وها قد حصل أردوغان على ما أراد مع الكيان الصهيوني، وتوّج بزيارة تاريخية لرئيس الكيان إلى أنقرة التي لقي فيها استقبالًا حافلًا ودافئًا، والآن يتعجّل حصول الشيء نفسه مع نظامي مصر وسورية، تطبيقًا لشعار "زيرو مشاكل" الذي رفعه منذ فترة طويلة، ويريد من خلاله أن يكون صديقًا للجميع.
ربما يتخلى نظام بشار الأسد عن تمنّعه، الذي هو أقرب إلى فنون الدلال والغنج السياسيين، ويستجيب قريبًا للرغبة التركية المحمومة في التصالح والتفاهم، وكذلك الأمر مع النظام المصري، بعد سنواتٍ كان خلالها أردوغان يعتبر مصافحة النظامين عارًا حضاريًا وأخلاقيًا يلحق بتركيا وديمقراطية تركيا وإنسانيتها، بل وبالعالم كله الذي اتهمه بالنفاق، كونه يمالئ النظم المستبدّة لقاء المصالح.
يبقى السؤال هنا: كيف سيتصالح رئيس الجمهورية التركية (أردوغان 2022) مع رئيس الحكومة التركية سابقًا (أردوغان 2013)؟ كيف سيحل هذه المعضلة مع نفسه، وهو الذي كان يأسر قلوب جمهور الربيع العربي وثورات الشعوب من أجل التغيير عبورًا إلى حالة ديمقراطية، ظلّ يتحدّث عن تركيا نموذجًا لها، حين يجد نفسه في حالة هرولة باتجاه قتلة ربيع الشعوب وأعداء الديمقراطية، طالبًا منهم الصلح والشراكة والمصلحة؟.
في السابع عشر من يوليو/ تموز 2014، كان رجب طيب أردوغان رئيسًا للحكومة التركية، وكانت انتخابات رئاسية على الأبواب، ويريد خوضها والفوز بها، ليصبح رئيسًا للجمهورية، وكان ربيع ثورات التغيير واحدًا من أدوات دعايته السياسية، حين كان يتحدّث لجمع غفير من المراجع الدينية الإسلامية، سنية وشيعية، عربية وتركية ومن مختلف أنحاء العالم، ويردّ على تصريحات لبشار الأسد بالقول "القاتل يظل قاتلا حتى لو أعلن عداءه لإسرائيل، وتضامنه مع غزّة"، ثم توجه بالخطاب إلى علماء الأمة "تحرّروا وابتعدوا عن السياسيين والسلطة.. أكره العالم الذي يقف مع السلطان، رأيت الأسد الظالم وبجانبه علماء لكي يرسل رسائل إلى العالم".
بمثل هذا الخطاب، خلب أردوغان ألباب جماهير الثورات العربية، وحين وصل إلى رئاسة الجمهورية، ظلّ يواصل الإبهار، فاتحًا بابه للنازحين من جحيم الأنظمة المستبدّة، متحديًا الغرب الأوروبي أن يكون إنسانيًا مثله، رافضًا الطغيان والاستبداد مثله، رافضًا أن يقطع خطوة واحدة باتجاه هؤلاء المستبدّين السيئين، متحدّيًا "سنظهر مجدّدا قوة الديمقراطية التركية للسياسيين المنافقين في أوروبا الذين اصطفّوا في الطابور لمصافحة يد الانقلابيين".
والوضع كذلك، ليس من حقّ أحد محاسبة أردوغان على مواقفه، فهذا حقٌّ حصري وأصيل لشعبه التركي، القديم منه والجديد، إذ لا أحد يمكن أن يفرض عليه أن يسلك ضد مصالحه ومصالح دولته، كل ما في الأمر أن من المهم، بل من الواجب، أن نتحرّر من الأوهام قبل أن نحلم بالحرية، فالرجل يسعى خلف ما يحقّق مصلحة شعبه، التركي، وهذا لا نقاش فيه، ولا اعتراض عليه، من دون أن يفرض علينا أحد من "الأردوغانيين العرب" أن نصفق ونهلل، أو نبرّر بحجة أنه الزعيم الذي يواجه وحده الدنيا كلها، لكي يحمي هويتنا وديمقراطيتنا، ويؤمن طريقنا إلى حريتنا .. هو زعيم لتركيا وشعبها فقط.