ماذا بعد وثيقة "العدل والإحسان" السياسية؟
قال عرّاب الإسلاميين في المغرب (حسب وصف بعضهم) وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق، الراحل عبد الكبير العلوي المدغري، في حوار أجرته معه يومية المساء، نشر في 1-11-2006، "لو نجح ذلك الحوار في تقديري، لكنا اليوم قد انتهينا من هذا المشكل، ولكانت "العدل والإحسان" انخرطت في العمل السياسي، ولم يبق هناك مشكل قط". ويقصد بالحوار الخطوة الطموح التي كان قد طرحها على الملك الراحل الحسن الثاني، وحصل على موافقته للشروع فيها في ذلك الوقت، وهي سلسلة مفاوضات جمعت الوزير صحبة لجنة رسمية سنة 1991 بمرشد الجماعة الراحل، الشيخ عبد السلام ياسين، وأعضاء هيئة الإرشاد فيها، من داخل سجن مدينة سلا، وكان موضوعها الأساس، حسب تصريح آخر للوزير في حوار أجراه معه الباحث سليم حميمينات، في 25- 11- 2008، "موقف الجماعة من الملك والمؤسّسة الملكية"، وأفضت، في المحصلة، إلى انتزاع نتائج مهمة، في نظر الوزير، تلخّصت في موافقة الجماعة على الانخراط في العمل السياسي من داخل حزب سياسي، ووفق المشروعية الدستورية، والابتعاد عن العنف، والابتعاد كذلك عن التبعية لأي جهةٍ خارجية. نتائج أكدتها وثيقة بخطّ شيخ الجماعة وتوقيعه، إلى جانب توقيع أعضاء هيئة الإرشاد.
وإذا كانت هذه الخطوة قد تمت تحت إشراف الوزير المدغري، فإنها كذلك، ليست إلا تعبيرا عن رؤية الحسن الثاني تجاه الجماعات الإسلامية، رغبة في احتوائها وتوجيه مسارها، ومنحها خصوصيّتها المغربية، حتى لا تتّسع دائرة تأثيرها خارج نفوذ السلطة، أو تتحوّل إلى مشكل لا يمكن التعامل معه. فتوافقت رؤية الملك مع تطلعات المدغري، مؤلف كتاب "الحكومة الملتحية"، فوجدت طريقها إلى التجسد بعد ذلك. ورغم حديث باحثين كثيرين عن تدخل طرف ثالث لإفشال هذه الحوارات التي كانت قاب قوسين أو أدنى من ضمّ الجماعة لجناح الدولة، فإننا نرى أنها خلفت أثرا إيجابيا كبيرا على توجّهات الجماعة، حيث أذكت فيهم روح الخصوصية المغربية، وأشعرتهم بأنهم يتعاملون مع نظامٍ يختلف عن الأنظمة الأخرى، التي راكمت مشكلاتها مع المد الإسلامي، إلى درجة أصبح فيها وجود أحدهما مقترنا ضرورة بفناء الآخر.
لم يحمل المحور السياسي لوثيقة "العدل والإحسان" جديداً، بل حافظ على كل التراث القديم للجماعة في تعاطيها مع السلطة
وإذا كانت كل هذه التفاصيل جزءا من أرشيف الذاكرة السياسية المغربية، فإن لحظة الثورات الديمقراطية سنة 2011 في المنطقة جعلت الحديث عن موضوع الجماعة في المغرب، وأفق ما ينتظره كثيرون منها، يتّجه نحو الاختلاف والتطّلع إلى الإبداع، بعيدا عن كل حلقات الحوار والمفاوضات المفرغة السابقة، والتي كانت تعود دائما إلى نقطة البداية. فهل استطاعت الوثيقة السياسية التي أصدرتها، أخيرا، الدائرة السياسية للجماعة، أن تفاجئ توقّعات متابعي الشأن العام، وتكسر مناخ الصمت الذي يجثم على الواقع السياسي المغربي؟
رغم إصدار الوثيقة في فبراير/ شباط الجاري، فإنها موثقة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتضم 198 صفحة، توزّعت، بعد التقديم، وتفاصيل تتعلق بالمنطلقات الكبرى للجماعة، إلى ثلاثة محاور كبرى: السياسة، والاقتصاد، والمجتمع. ولعل أول حاجزٍ يقف أمام الاطلاع السلس عليها، حجمها الكبير، والذي نعتقد أنه سببٌ كافٍ لعدم التفاعل معها بالشكل المطلوب، إلى جانب الصياغة الجافّة، التي تقتفي أثر كتابة الخبراء في المجالات الثلاثة المذكورة، فصارت أشبه بصياغة الوثائق التي تُصدرها الدولة، التي تغرق القارئ في كمٍّ مهول من المقترحات والحلول والمشكلات، فبدل أن تختزل له الصورة، وتزيل ما فيها من لبس، تزيد من فرط غموضها والتباسها!
وإذا أردنا التدقيق أكثر، لم يحمل المحور السياسي للوثيقة جديداً، بل حافظ على كل التراث القديم للجماعة في تعاطيها مع السلطة، ما وضعها في صورة مشوّشة، لا تميل إلى أيٍّ من الطرفين، سواء وجه الجماعة القديم، أو واقع العالم المتغيّر اليوم، وهو ارتباك في استشراف مستقبل الجماعة وأفقها السياسي. ولعل الجماعة اتكأت على ملفّ القضية الفلسطينية التي توزّع الحديث عنها داخل الوثيقة، معلنة رفضها كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومصرّحة إن "التمادي في التطبيع العسكري مع الكيان الصهيوني وتوسيعه ليشمل الأسلحة والاستخبارات والتدريبات العسكرية والمنظومة المعلوماتية؛ ما يهدّد الأمن القومي للمغرب ويشكّل خطراً على استقرار المنطقة" (ص 74). ورغم هذا التنديد، لم تنل القضية الفلسطينية حظّها المستحق داخل هذه الوثيقة السياسية، وهو أمرٌ شديد الغرابة، ويطرح استفهامات كثيرة، حول نجاعة الخبراء السياسيين الذين أشرفوا على تنسيق مواد هذه الوثيقة وتحريرها.
نجحت المؤسّسة الرسمية في المغرب، إلى حد بعيد، في ترويض مارد الجماعات الدينية، على الأقل من ناحية التصورات الكبرى
أما الجانب الاقتصادي والاجتماعي منها، فلم يختلف، من حيث الانتقادات والحلول المقترحة، عن بقية الوثائق التي تصدرها المندوبية السامية للتخطيط، أو مجلس المنافسة، أو المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وغيرهم من المؤسّسات الرسمية، وربما كانت وثائق هذه المؤسّسات أكثر دقة، نظرا إلى تضمّنها نسبا وأرقاما للظواهر التي تعالجها، بعكس وثيقة الجماعة، التي برغم طولها، غلب عليها طابع تعميمي لا يتناسب مع حجمها الكبير، وإن صرح القيادي البارز فيها، فتح الله أرسلان، بأن ذلك متعمّد، حتى تتخذ أسلوبا وسطا بين الأفكار العامة وبرامج الأحزاب السياسية (جاء تصريحه في حوار معه نشرته هسبريس الإلكترونية في 18- 2- 2024).
ورغم هذا التصريح، يؤكد الملاحظة السابقة تناول الوثيقة موضوع التنمية، والذي كان تكرارا تعميميا لمقترحاتٍ عديدة تقدمها مؤسّسات الدولة، وإن جاءت الوثيقة على مسألة عدم تفعيل هذه المقترحات، غير أنه كان منتظراً من وثيقة الجماعة أن ترفع سقف التوقّعات التنموية، والمبادرات المبدعة في هذا المجال، باعتبارها من التجمّعات السياسية في المغرب، التي تلتحف بصورة المعارضة وامتلاك الحلول، إلى جانب أنها بعيدة عن مزاولة الشأن العام، الأمر الذي قد يمنحها أريحيّة وفرصاً أكبر في القدرة على الابتكار والتفكير في مغرب المستقبل.
وأخيراً، ليس للمراقب غير أن يسجل أن المؤسّسة الرسمية في المغرب نجحت، إلى حد بعيد، في ترويض مارد الجماعات الدينية، على الأقل من ناحية التصورات الكبرى، إلى جانب تقزيم سقف توقعاتها وطموحها، هذا إن لم نقل إن الدولة في المغرب صارت أكثر مغايرة للمتوقع من سقف الجماعات الإسلامية. وأمام واقع كهذا، لم يعد السؤال متجسّداً في القول: كيف نتعامل مع المد الإسلامي ونواجهه، بل في القول: ماذا يعني وجود الإسلاميين اليوم؟