مائة عام من الانقسام السياسي في مصر
ليس الانقسام السياسي في التاريخ المصري الحديث وافدا جديدا على الساحة السياسية المصرية، فهو ضارب في جذوره في الأرضية التي نشأت فيها الحركة الوطنية منذ انتفاضة ثورة 1919، أو الفترة التي سبقتها، فقد احتدمت شدّة الانقسام السياسي بين الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل وحزب الوفد، من حيث المنهجية المتبعة في مواجهة الاحتلال البريطاني أو التفاعل مع العملية السياسية، إلى درجةٍ وصلت إلى أن يحاول طلاب محسوبون على الحزب الوطني حينها اغتيال سعد زغلول، وهي الحادثة التي لم يتحدث عنها زغلول في مذكراته. وهناك من رجّح أن تكون ضمن المائة صفحة المفقودة في المذكّرات، لكن محاولة الاغتيال تلك تنبئنا بأن استخدام الاغتيال لم يكن حكرا على الإسلاميين، أو أن الإسلاميين أنشأوه، أو بدأوا به، كما روج نظام يوليو في مصر، بل هو سابق على نشأة جماعة الإخوان المسلمين، عندما استخدمه الحزب الوطني لتصفية الضباط الإنكليز، وكذلك لزعماء وطنيين، كما سعد زغلول المشار إليه آنفا. في المنفى، وبين الجماعات السياسية المنفية في فترة الاحتلال الإنكليزي، وصل حد الانقسام السياسي بين المجموعات المختلفة إلى حد الاتهام بالتخوين والتعاون مع الإنكليز والتجسّس على المعارضين في الخارج، وهو شبيه بما يحدث في هذه الأيام بين المعارضين الموجودين في المنافي بعد الانقلاب العسكري الذي وقع في 3 يوليو/ تموز 2013.
ولا يمكن تغطية تاريخ الانقسام السياسي في مصر في مقالة من بضع مئات من الكلمات. لكن ما يُراد الإشارة إليه هنا أن الانقسام السياسي أحد العوامل التاريخية التي غفل كثيرون عن التعاطي معها، والتعامل معها، بوصفها عاملا حاسما في فشل المسار السياسي في مصر في فترات مختلفة، وأيضا دليلا على فشل القوى السياسية في إدارة خلافاتها، حتى مع لحظات التغيير الكبرى، كثورة 19 أو الانتفاضة الثورية في 2011، كان شبح الانقسام هو المخيم على الجميع، والمهيمن على الساحة السياسية.
في الفترة التي سبقت الانتفاضة الثورية في يناير 2011، كان هناك هامش من الحرية سمح للقوى الفاعلة حينها بالحراك
في الفترة التي سبقت الانتفاضة الثورية في يناير/ كانون الأول 2011، كان هناك هامش من الحرية سمح للقوى الفاعلة حينها بالحراك، واستغلال ذلك الهامش للعب دور في الحياة السياسية. كانت خريطة القوى السياسية حينها تتسم بالتنوع والتعدّد ما بين حركات سياسية، مثل الحركة المصرية للتغيير (كفاية)، وما تفرّع منها بعد ذلك من حركات شبابية أخرى. إلى جانب أحزاب سياسية ذات أيديولوجية قومية ويسارية، وأحزاب ليبرالية، إلى جانب الحزب الوطني الديمقراطي (الحاكم). ثم جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تمثل التيار الإسلامي، وحزب الوسط باعتباره الحزب السياسي الوحيد ذا المرجعية الإسلامية، والذي كان يمثل يسار اليمين، ثم منظمات حقوق الإنسان، وما تمثله من كونها امتدادا لليبرالية الجديدة. في تلك الفترة، تقاسمت تلك القوى، باختلاف تكويناتها، القوى المختلفة في المجتمع. ففي وقتٍ هيمنت فيه جماعة الإخوان المسلمين على الحركة الطلابية، هيمنت الحركات اليسارية على الحركة العمالية، ومنظمات حقوق الإنسان. قبل انطلاق الانتفاضة الثورية بعام، تشكلت الجمعية الوطنية للتغيير مع قدوم محمد البرادعي منافسا محتملا وبديلا لحسني مبارك في الانتخابات الرئاسية. شكلت الجمعية تحالفا للقوى الوطنية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، باستثناء شخصيات عامة ذات المرجعية القومية، لم تنخرط في ذلك التحالف، لأسباب تعود إلى الانقسام السياسي ذاته، والذي تحوّل إلى خلاف شخصي.
كانت الأهداف الرئيسية للجمعية الوطنية هو العمل على التوصل إلى نظام سياسي، يقوم على الديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية. ومن هذا المنطلق، صاغت الجمعية الوطنية للتغيير المطالب السبعة، والتي تمثلت في كفالة الضمانات الأساسية لانتخاباتٍ حرّة ونزيهة، تشمل جميع المصريين، بحيث تكون هناك فرصة متكافئة للجميع، سواء الانتخابات التشريعية أو الانتخابات الرئاسية، وهي ضماناتٌ وإجراءاتٌ تطالب بها فئاتٌ عريضةٌ من المجتمع المصري منذ سنوات عديدة. لم تذهب القوى السياسية إلى أبعد من ذلك، لوضع خريطة طريق أو خطة سياسية لما بعد مبارك، أو محاولة مناقشة وضع الجيش في العملية السياسية في مصر كما ذكرت آنفا، وهو الدور الذي ظهر فيما بعد وبقوة في الفترة الانتقالية ومن بعدها. بمعنى آخر، غياب المشروع السياسي لعب دورا كبيرا في تعميق الاستقطاب بعد سقوط مبارك. وتعتبر هذه النقطة من أهم نقاط القصور المستمرة، في عدم قدرة تلك القوى على وضع مشروع سياسي، يشعر الجميع بالمساهمة فيه.
الانقسام السياسي ضارب في جذوره في الأرضية التي نشأت فيها الحركة الوطنية منذ انتفاضة ثورة 1919، أو ما كان سابقاً عليها
تقاسمت تلك القوى فيما بينها عاملين أساسيين في فترة ما قبل الانتفاضة: الأول، الاتفاق على رحيل مبارك عن السلطة. والآخر هو الانقسام السياسي. لم يكن عامل الانقسام السياسي محتدما كما هو الآن، إلا أن حضوره كان واضحا، لكن الاتفاق على هدف إطاحة مبارك من السلطة أجّل من تعميق هذا الانقسام وبروزه على السطح بالصورة الحالية. مع انطلاق الانتفاضة الثورية، بدأت الثورة المضادّة في المنطقة كلها تعد عدّتها لمحاصرة هذا الحراك الشعبي، وبدأت في استغلال مناطق الاختلاف والانقسام، لتتسلل من خلاله وتنفذ مشروعها الذي كان يهدف، من اللحظة الأولى، إلى محاصرة تلك الانتفاضة الثورية وهزيمتها. بعد حالة الانفتاح السياسي والسيولة والانسيابية التي حدثت، وَفَدَت إلى الساحة السياسية قوى سياسية أخرى جديدة، غير القوى التقليدية المعروفة، هادفة إلى خوض تجربةٍ سياسيةٍ وتأسيس أحزاب سياسية. وكان هناك اهتمام ملحوظ بالعمل الحزبي في أوساط فئات وشرائح اجتماعية عدة، خصوصا في الطبقة الوسطى. نتيجة ذلك، تشكّلت تجمعات وائتلافات سياسية عديدة، إلى جانب أحزاب سياسية جديدة. الفئة الأولى، وهي فئة التجمعات والائتلافات، اتسمت بعدم وجود تنظيم أو مشروع سياسي أو قاعدة جماهيرية. كما أنها نشأت في خضم حالة الانقسام السياسي، لذا كان وجودها مؤقتا ساهم، في الجانب الآخر، من تعميق حالة الانقسام السياسي بين فئاتٍ مختلفة من القوى الشبابية. في الوقت نفسه، لم يكن للأحزاب التي نشأت في تلك الفترة قاعدة جماهيرية كبيرة، لذا لم تستمر طويلا، وانتهت بسرعة شديدة.
شبح الانقسام هو المخيم على الجميع، والمهيمن على الساحة السياسية
وكعادته، استطاع النظام أن يوظف هذا الانقسام السياسي لمصلحته، من أجل الإمساك بمفاصل السلطة، ووأد أي مبادرة بين القوى المدنية لبناء تحالفات مستقبلية، تحاول عبور هذا الانقسام، أو الاتفاق على رؤية موحدة تهدّد وجود النظام ومستقبله. في المقابل، ثمة استراتيجية درج عليها النظام من عقود، وهي الرهان على الوقت، ليكسب مزيدا من المساحات، وكذلك الرهان على صبر الناس وتحملهم. وبالتالي، اليأس من أي محاولات إصلاح أو تغيير مستقبلية. تلك الاستراتيجية استخدمها النظام في كل مراحله المختلفة، وبرزت بصورة أكبر في أثناء ثورة يناير. في الوقت الراهن، ومع تزايد التدهور الاقتصادي، بالتوازي مع المستوى السياسي والفشل الشمولي على مستويات عدة، أصبح النظام مدركا فقدانه الشعبية التي جاء بها بعد الانقلاب، فلا حلول أمامه سوى الاستمرار في مزيد من القمع الذي بدأه منذ سنوات، والذي يعبر عن أزمته الحقيقية. في كل مرةٍ يبرز أي حراك أو نقاش سياسي، يبرز الانقسام السياسي. وفي كل مرة، بصورة أشدّ ضراوةً مما كان عليه الأمر من قبل، ويُفشل أي مستقبل للتوافق أو الاتفاق على رؤية محدّدة كبداية للتغيير، بل خرج الأمر عن السيطرة، وأصبح الاستهداف الشخصي مع المختلف سياسيا هو الطريقة التي تتعامل بها القوى السياسية مع بعضها بعضا. والسؤال هنا: كيف لهذه القوى السياسية أن تستفيد من أخطاء الماضي، وأن تكون قادرةً على إدارة الانقسام السياسي، وتحويله من انقسامٍ إلى خلاف سياسي يسهل إدارته وترشيده؟