مائة عام من إدغار موران
احتفلت الجمهورية الفرنسية بمرور قرن على ولادة الفيلسوف وعالم الاجتماع، إدغار موران. ويبدو الخبر للوهلة الأولى عادياً، ويمكن له أن يقع في أي بقعة جغرافية في العالم. ولكنّ تفصيلا مهمّا يغيب عن الخبر السابق، يحدد أن هذا الاحتفال تم مع المُحتفى به الذي بلغ المائة عام.
بدأت الاحتفالات منذ عدة أسابيع بصدور كتاب جديد لموران الذي أثبت للقوم أنه ما زال في قمة العطاء والتفكير والتحليل. ومن ثم كرّمته منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (يونسكو) في مقرها الباريسي بطريقة متميزة، فقد أعطى محاضرة طويلة، تطرق فيها إلى أفكار فلسفية معقدة بكلمات بسيطة وواضحة، وعاد بنا إلى أصول طرحها، وكيف أن إعمال العقل والإرادة كفيلان بإعادة إنتاجها عبر العصور، بالاستفادة من القراءة المتجدّدة.
وتتالت البرامج الإذاعية والتلفزية التي تستعرض إنتاجاته الفكرية التي فاقت خمسين كتاباً. وما أزعجه كثيراً في اللقاءات "الاحتفالية" تركيز محاوريه أو مستقبليه على عمره الكبير، مبدين استغرابهم من استمرار رجاحة العقل وتجاوب الإرادة وتفاعل الجسد. لكن أدبه الجمّ وابتسامته الحارّة جنّباه الرد بسلبية، وإنما استطاع أن يجترح جوابا ذكيا وفلسفيا من سؤال أو أسئلة تنقصها اللباقة، فكأننا بمحاوريه يستغربون عمره الطويل.
محارَبٌ بشدة من اللوبي الصهيوني في فرنسا، وهو اليهودي الولادة، شديد العلمانية، لأنه يقف، بشكل واضح وصريح، إلى جانب حقوق الشعوب المنتهكة
إدغار موران، الشيوعي السابق وحتى الستاليني السابق، والذي نقد فترته تلك بنصوص عميقة حافظت على يسارية متخلصة من غاصبيها، وتحمل مبادئ العدالة والمساواة والديمقراطية، احتفى به يسار فرنسا، كما يمينها ووسطها، عدا متطرّفيها طبعا. وبالتالي، فقد زالت الحواجز العقائدية أمام شخصه وعلمه الواسع. ومن المؤكّد أن بعض من احتفى به شكلاً لم يفعل إلا للاستفادة من الزخم الشعبي حوله في فترة انتخابية حسّاسة. ولكن موران كان يبتسم أمام الجميع، ليس نفاقاً البتة، بل هو بابتسامته هذه، كما قال حينما سئل، يدعوهم، بإيماءة إنسانية، إلى أن يتخلصوا من تصلّبهم في الموقف وانحيازهم الجامد مهما كان، ويتجهوا إلى ممارسة النقد الذاتي ومساءلة المقدّسات لصالح فائدة الإنسان والأرض التي كتب دفاعاً عن ضرورة الحفاظ عليها من تغوّل الأطماع الصناعية والتكنولوجية لمصلحة الأجيال القادمة.
مساء العيد شبه الوطني، أضاء الرئيس إيمانويل ماكرون مائة شمعة احتفالاً بضيفه الفيلسوف في قصر الإليزيه، في جو حميمي يكاد يدفع العقل المعتاد على خنوع رجال الفكر، للظن أن موران هو من مؤيدي ماكرون، أو أن ماكرون هو من مريدي موران. وبمجرّد الاطلاع على مواقف موران في السنوات الأخيرة، والتي يُشغلها ماكرون بحكمه، يمكن أن نلاحظ جرعة النقد الشديد في كتاباته الرصينة للتوجه غير المدروس نحو لبرلة الحياة الاقتصادية على حساب الحقوق العمالية، وعلى حساب البيئة والأرض. وفي المقابل، وعلى الرغم من ثقافة ماكرون الفلسفية الواسعة من خلال تتلمذه على يد الفيلسوف بول ريكور، إلا أنه لم يعبّر يوماً، قبل هذا التاريخ، عن تأثّره الصريح بفكر موران أو بقول له. إذاً، فهو يقوم بعمل ليس انتخابياً فحسب، بل تقديريٌّ لأهم الفلاسفة المعاصرين الأحياء في أوروبا. وفي هذا التقدير تقليد جمهوري لم يحد عنه إلا ربما نيكولا ساركوزي الذي نادراً ما تقرّب من رجال الفكر، وأحاط نفسه بمدّعي فلسفة إعلامية كبرنار هنري ليفي.
لم يصمت موران في قمة أزمة الرهاب من الإسلام والمكارثية الفكرية
احتفلت الجمهورية إذاً في قصر رئيسها المنتخب، إيمانويل ماكرون، والذي يقيم فيه بشكل مؤقت كأسلافه، بالعيد المائة لإدغار موران. الإجماع على الأخير ليس كلياً، فهو محارَبٌ بشدة من اللوبي الصهيوني في فرنسا، وهو اليهودي الولادة، شديد العلمانية، لأنه يقف، بشكل واضح وصريح، إلى جانب حقوق الشعوب المنتهكة. وبالتالي، من البديهي، وهو المتناسق مع نفسه ومع فكره، بأن يكون من أشد المناصرين للقضية الفلسطينية والمندّدين بالاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. لقد دفع هذا الموقف أحد ممثلي حزب الليكود الإسرائيلي في المجلس النيابي الفرنسي (نعم، وهو نائب عن فرنسيي الخارج)، واسمه مائير حبيب، إلى نعت موران، في جلسة استماع، باليهودي كاره الذات. وفي هذه الجلسة، غضب موران، وربما لأول مرة، وتوجّه إلى شاتمه بالقول إن هذه اللهجة سمعها سابقاً عندما كان مقاوماً ضد النازية، وكان عملاؤها يستعملونها لمخاطبة الثوار الفرنسيين الأحرار، فضجّت قاعة البرلمان بتصفيق مجمل باقي النواب.
في المقابل، لم يصمت إدغار موران في قمة أزمة الرهاب من الإسلام والمكارثية الفكرية المستشرية لدى بعض صُناع الخطاب الإعلامي الفرنسي ضد من يحاول فهم الظواهر الاجتماعية بهدوء وعلمية، ووصفه لهم باليسارويين الإسلامويين، فقد انضم إرادياً إلى التصنيف الأخير، داعياً إلى الترفّع عن إقصاء من يتضامن مع المهمشين، والذين ربما إن تطرفوا فلا جدوى من استعادتهم بتطرف مقابل.
على هامش احتفال فرنسا بمئوية إدغار موران، استعدتُ سريعاً مصائر رجال العلم والفكر في مشرقنا ومغربنا، فلم أكبح نفسي من تكرار ما قاله عبد الرحمن الكواكبي منذ نيف ومائة عام: "الغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكّلون بهم.. فالسعيد منهم من يتمكّن من مهاجرة دياره.. وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء والأدباء والنبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء".