مأزق تركيا في البحر الأسود
وجّهت تركيا في 18 أغسطس/ آب الجاري تحذيراً نادراً لروسيا، رداً على إطلاق البحرية الروسية النار على سفينة شحن في البحر الأسود لعدم استجابتها لطلب التوقّف من أجل التفتيش. لم تؤدّ الحادثة إلى أزمة بين أنقرة وموسكو، لأنهما تنظران إلى الحفاظ على علاقة المنفعة الوثيقة بينهما أنّهما بحاجة لكليهما، لكنّها تعكس، إلى حد كبير، المأزق الذي يواجه موقف تركيا في منطقة البحر الأسود. في أعقاب انهيار اتفاقية الحبوب بعد رفض موسكو تمديدها لمرّة رابعة، تصاعدت مخاوف أنقرة من عسكرة البحر الأسود وتعريض أمن الملاحة البحرية للخطر. وقد بدأت موجة جديدة من الدبلوماسية صوب موسكو وكييف لإعادة إحياء الاتفاقية. منذ نهاية الحرب الباردة، تحوّلت منطقة البحر الأسود بشكلٍ متزايدٍ إلى ساحة للتنافس الجيوسياسي بين روسيا والغرب، ما زاد من الضغط على استراتيجية تركيا في الموازنة بين معارضة السياسات التوسّعية لروسيا في المنطقة وتقويض قدرة حلف الناتو على تعزيز حضوره في هذه المنافسة.
مع أن تركيا عضو في الحلف، إلآ أنّها عملت، ولا تزال، على تشكيل استراتيجيتها في البحر الأسود بمعزلٍ عن هويتها الأطلسية. على غرار دول "الناتو" الأخرى، عارضت أنقرة الحرب الروسية على جورجيا في عام 2008، وضمّ روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014، ثم الحرب الروسية على أوكرانيا، لكنّها لم تنخرط في العقوبات الغربية على روسيا، كما لم تنخرط، بشكل واسع، في تسليح كييف كما يفعل أعضاء "الناتو" الآخرون. السبب أن تركيا تسعى، أولاً، إلى عزل نفسها عن هذه المواجهة الجيوسياسية بين روسيا والغرب في البحر الأسود لمنع الإضرار بمصالحها المتداخلة مع روسيا في مجالاتٍ كثيرة. وتعمل ثانياً على الحدّ من تصعيد هذه المنافسة لتجنّب ظهور تحدّيات أمنية كبيرة على حدودها الشمالية. بدلاً من ذلك، فضّلت تركيا، إلى حد كبير، العمل بشكل منفصل عن "الناتو" في البحر الأسود عبر تعزيز قوتها البحرية وتعاونها مع دول الحوض الأخرى المتضرّرة من السياسات التوسّعية الروسية مثل أوكرانيا، إلى جانب تعزيز الأدوات الدبلوماسية في تفاعلاتها مع روسيا من أجل إيجاد مساحة للتعاون الجزئي معها في البحر الأسود، بما يخدم استقرار المنطقة.
تقييد أنقرة حركة مرور السفن العسكرية عبر المضائق التركية قوّض قدرة روسيا على توظيف أسطولها البحري بشكل نشط في حربها على أوكرانيا
وترتكز استراتيجية تركيا في البحر الأسود على ثلاث نقاط أساسية: الأولى، تعزيز قوّتها البحرية في هذه المنطقة والتعاون في مجالات الدفاع البحري مع دول الحوض الأخرى، للحفاظ على توازن القوى مع روسيا. على سبيل المثال، لعبت أنقرة دوراً فعالاً في إعادة بناء القوة البحرية الأوكرانية بعد تدميرها في حرب القرم. كما عمّقت من تعاونها في المجالات الدفاعية مع كييف بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، سيما في مجال الإنتاج المشترك للطائرات المسيّرة. وتتمثل النقطة الثانية في الانخراط الفعّال في مبادرات التعاون بين دول حوض البحر الأسود لتحويله إلى منطقة استقرار وتعاون. كانت تركيا من بين الدول الفاعلة في تشكيل منظمة التعاون الاقتصادي لدول حوض البحر الأسود، والتي تهدف، بشكل أساسي، إلى التركيز على مجالات التعاون الاقتصادي بين دول الحوض سبيلا لتعزيز السلام في البحر الأسود. النقطة الثالثة، معاهدة مونترو التي أتاحت لتركيا التحكّم في مضائق البحر الأسود في فترة الاضطرابات على غرار الحرب الراهنة.
حتى بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، لم تتخلّ تركيا عن هذه الاستراتيجية التي نجحت، حتى الوقت الراهن، في الحد من مخاطر عسكرة واسعة النطاق في البحر الأسود. لكنّها لا تزال تواجه صعوبةً في تصحيح موازين القوى مع روسيا في المنطقة، والتي بدأت تميل، بشكل متزايد، لصالح موسكو منذ الحرب الروسية الجورجية. تكمن المعضلة الأساسية التي تواجه استراتيجية تركيا في البحر الأسود في أنها تسعى إلى التعايش مع السياسات التوسّعية الروسية بقدر أكبر من المواجهة، كما أنها لا تزال تنظر إلى انخراط "الناتو" في البحر الأسود على أنه أكثر خطورة على مصالحها الحيوية وعلى أمن البحر الأسود بقدر مساوٍ للسياسات الروسية. يبدو ذلك مفهوماً من منظور جيوسياسي واسع للمنافسة الجيوسياسية بين روسيا والغرب، خصوصاً أن أنقرة تعمل، بشكل متزايد، على تشكيل سياستها الخارجية مع روسيا باستقلاليةٍ أكبر عن الغرب. مع أن الفوائد المتصوّرة لهذه الاستراتيجية تبدو واقعية وفق هذا المنظور، إلا أنها قلّصت، في المقابل، من قدرة تركيا على الاستفادة من مزايا عضويتها في "الناتو" لتشكيل استراتيجية أكثر نشاطاً في مواجهة طموحات روسيا لتعزيز حضورها الجيوسياسي في البحر الأسود.
نجحت تركيا في الاستفادة من الحرب الروسية الأوكرانية، من أجل تعزيز استراتيجيّتها في المنافسة الجيوسياسية في البحر الأسود
جزئياً، بدأت تركيا تميل إلى تطوير هذه الاستراتيجية بعد الحرب الروسية الأوكرانية، بتعميق تعاونها الدفاعي مع أوكرانيا بقدر أكبر مما كان عليه قبل الحرب، فضلاً عن إبداء دعمها صراحة عضوية أوكرانيا في "الناتو"، رغم أن العقبات التي تحول دون هذه العضوية أكبر بكثير من موقف أنقرة منها. علاوة على ذلك، تُراهن تركيا على أن استحالة تحقيق روسيا نصرا كبيرا في حربها على أوكرانيا سيُقوّض قدرتها (روسيا) في المستقبل على تعزيز وجودها الجيوسياسي في البحر الأسود. عندما رعت تركيا اتفاقية تصدير الحبوب عبر الممرّ الآمن في البحر الأسود قبل نحو عام، كان أحد أهدافها الرئيسية دفع روسيا إلى الانخراط في استراتيجيّتها الرامية إلى الحد من العسكرة المتزايدة في المنطقة. وقد قبلت موسكو على مضض هذا الانخراط لدوافع تتعلّق، في الغالب، في الحفاظ على علاقتها الجيدة مع تركيا. مع أن تقييد أنقرة حركة مرور السفن العسكرية عبر المضائق التركية قوّض قدرة روسيا على توظيف أسطولها البحري بشكل نشط في حربها على أوكرانيا، إلا أنه كان مصلحة لها من حيث تقييد قدرة "الناتو" على زيادة أنشطته العسكرية في المنطقة.
حتى في الوقت الذي قرّرت فيه روسيا إنهاء مبادرة الحبوب، فإنها لا تزال تنظر إلى موقف تركيا الحذر من التصعيد في البحر الأسود على أنّه حيوي لمصالحها في المنطقة. نجحت تركيا في الاستفادة من الحرب الروسية الأوكرانية، من أجل تعزيز استراتيجيّتها في المنافسة الجيوسياسية في البحر الأسود، من خلال تفعيل معاهدة مونترو وتقويض قدرة كل من روسيا والغرب على التحرّك في المنطقة، فضلاً عن تحسين موقفها في إعادة تشكيل علاقاتها مع موسكو والغربيين. وتأمل أن تُساعدها هذه المكاسب على المدى البعيد في جعل استراتيجيتها أكثر تأثيراً على المنافسة الجيوسياسية في البحر الأسود، لكن ذلك لا يُخفي مأزقها في التعامل مع الوضع الراهن الذي يزداد اضطراباً في البحر الأسود.