مأرب لمن يُريد صنعاء
يشن الحوثيون، منذ نحو أسبوعين، هجومًا عنيفًا على محافظة مأرب، من عدة جبهات، شمالًا وشرقًا وغربًا، على هيئة هلالٍ تشكَّل مطلع العام الماضي، ويمرّ بالحدود الإدارية لمحافظات الجوف، وصنعاء، ومأرب نفسها، والبيضاء، على الرغم من تعرّضهم لخسائر فادحة في القوى والوسائل، أمام دفاعات قوات الحكومة المعترف بها دوليًا، وبفعل ضربات طيران التحالف؛ محقّقين مكاسب عديدة، لكنها، حتى الآن، ليست ذات قيمة استراتيجية وتكتيكية فاعلة ومكتملة؛ إذ، على سبيل المثال، لم يُسفر تقدّمهم في جبهة صرواح "معسكر كُوفَل"، عن تطويرٍ في الهجوم، أو استثمار لنتائجه. علاوةً على ما تبديه القوات الحكومية، مدعومةً بمقاتلي القبائل، من استجابة قوية، ومرونةٍ قتاليةٍ غير مسبوقة، تشيران إلى وقوع تحوّل واسع لمصلحتها، خلال الأيام المقبلة.
بكل المقاييس، تُشكّل مأرب مرتكزًا استراتيجيًا لمن يريد الحفاظ على صنعاء، أو الوصول إليها، وهذا ما يدركه كل فرقاء الحرب، سيَّما بعد تكبيل القوات الحكومية المتمركزة جنوبي مدينة (ميناء) الحُديِّدة، باتفاقيات استوكهولم، نهاية عام 2018؛ ذلك أن مأرب توفر للحكومة، المعترف بها دوليًا، مصفوفةً من أسباب القوة، مثل: الجوار الجغرافي الشديد الخطورة على صنعاء، وتحكُّمها في جانبٍ من مصادر النفط، والغاز، والطاقة الكهربائية، وتحوّلها إلى حاضرة سياسية، واقتصادية، وعسكرية لهذه الحكومة، بعد تضاؤل فرص عودة الرئيس عبد ربه منصور هادي، إلى عدن؛ نتيجة استمرار سيطرة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي عليها، وانعكاس ذلك على أداء رئيس الحكومة الجديدة وأعضائها المستقرين في المدينة.
يجيد الحوثيين الاستثمار في بؤر التوتر والتناقضات في معسكر خصومهم
معاودة الحوثيين هجماتهم على مأرب تأتي في ظل مناخ مثالي لهذه الهجمات، داخليًا وخارجيًا، فعلى الصعيد الداخلي استغل الحوثيون تداعيات الانقسامات الحادّة في أطراف الحكومة، المعترف بها دوليًا، وتبنّوا سياسات عديدة داعمة لعملياتهم، ومن ذلك إبرامهم اتفاقات ثنائية، سرية، مع قوات طارق صالح؛ لتعزيز حالة الجمود العسكري السائدة في الجبهات الممتدة من شمال غربي البلاد حتى جنوبها، وتنفيذهم إجراءاتٍ استخباريةً وإعلامية مكثفة، تهدف إلى استقطاب ولاءات سكان مأرب وتشتيتها، والإثارة، على نحو واسع، بأن عملية السيطرة على مأرب، لن تكون فادحة الكلفة، أو خاسرةً كسابقاتها. وهنالك مسعى آخر وخطير، للتأثير في موقف الجنود والضباط المنتمين إلى القوات الحكومية وقناعاتهم، عن طريق التضييق والضغط على أُسرهم التي تقطن مناطق سيطرة الحوثيين.
على الصعيد الخارجي، مثّل تراجع الإدارة الأميركية الجديدة عن تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية، محفزًا آخر لهجومهم على مأرب. وهذا، من دون شك، لا يُلغي دور إيران المساند لهم، والذي ازداد، وضوحًا وقوةً، بعد تعيين سفيرٍ لها لديهم أواخر العام الماضي، وربطها مصير الأزمة اليمنية بمفاوضاتها مع الولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي، وذلك ما كشفته زيارة مبعوث الأمم المتحدة المعني باليمن، مارتن غريفيت، طهران، قبل أقل من أسبوعين، وتكثيف الحوثيين هجماتهم على المدن السعودية، بالصواريخ الباليستية، والطائرات غير المأهولة.
لوحظ أن المجلس الانتقالي الجنوبي ينتظر، وبفارغ الصبر، سقوط مأرب في قبضة الحوثيين
يجيد الحوثيين الاستثمار في بؤر التوتر والتناقضات في معسكر خصومهم، وهذا ما بدا في سياق هجمتهم الحالية على مأرب، فيما لا يدرك هؤلاء الخصوم عواقب ذلك على أدائهم العسكري، فضلًا عن المصير السياسي الخاسر الذي ينتظرهم، أمام تنامي قوة الحوثيين، ونزعتهم التوسعية التي أوصلتهم، عام 2015، إلى حوافّ خليج عدن، وباب المندب، والتي لم تكن لتحدث لولا حالة الانقسام التي طاولت القوات المسلحة آنذاك. فقد لوحظ أن المجلس الانتقالي الجنوبي ينتظر، وبفارغ الصبر، سقوط مأرب في قبضة الحوثيين، على الرغم من تظاهر بعض قادته بخلاف ذلك، فيما يتخذ أنصار الرئيس الراحل، علي صالح، موقفًا مزدوجًا مما يجري؛ فتُحرِّك الأول حسابات تحالفية مع المجلس الانتقالي الجنوبي، لم يُعلن عنها بعد، على الرغم من تشكُّل ملامحها الإعلامية والاستخبارية، وتُحرّك الثاني بقايا ضغائن سياسية أفرزتها ثورة فبراير (2011). ويُجسد هذه الحالة العلاقة المتنافرة، إلى حدٍ ما، بين وزير الدفاع، الفريق محمد المقدشي، الذي يُحسب على أنصار هذه الثورة، ورئيس هيئة الأركان العامة، الفريق صغير عزيز، الذي كان أحد مناوئيها، علاوة على أثر التحكّم الإقليمي الذي يوجه سلوك كل هؤلاء الفرقاء.
تظل هنالك مسألة غاية في الأهمية والخطورة معًا، ممثلةً في الأجندة التي يتبنّاها الرئيس عبد ربه منصور هادي، تجاه مناطق الشمال من البلاد، على حدود ما قبل الوحدة بين الشطرين عام 1990، وموقع مأرب في هذه الأجندة؛ إذ يُلحظ أن هذه المناطق، ومنها مأرب، لا تحظى بالقدر ذاته من الاهتمام الذي يبديه تجاه المحافظات الجنوبية، مع ما تمثله مأرب من قيمة متعدّدة القوة لبقاء نظامه السياسي، لا توفرها له أي محافظة أخرى من المحافظات الواقعة خارج سيطرة الحوثيين. ولعل مردَّ هذا الموقف أن محافظات الشمال التي ترزح تحت سيطرة الحوثيين باتت عبئًا ثقيلًا على المحافظات الجنوبية التي تحرّرت منهم، وتصدُّر واجهة المشهد زعامات انتهازية فاسدة، جعلت من الحرب وسيلة للتكسُّب والإثراء.