مآلات الأزمة السياسية في تونس
مرّ قرابة أربعة أشهر على "إجراءات" الرئيس التونسي، قيس سعيّد، التي أقال بها حكومة هشام المشيشي وجمّد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، ولا تزال الأزمة السياسية تراوح مكانها، نتيجة فشل الرئيس في تحقيق أي تقدّم ملموس في الوعود التي أطلقها سوى مزيد من بسط سلطته وتوسيع دائرة صلاحياته، وازدياد انتهاك الحريات والتضييق على وسائل الإعلام، في وقتٍ بدأت تحرّكات الشارع تتسع وتتعالى أصوات الأحزاب الرافضة تلك الإجراءات بعد انتظارها الطويل خريطة طريقن تحدد ملامح إدارة المرحلة المقبلة، وتطلق حوارا وطنيا لتحديد الإصلاحات السياسية والتشريعية المقبلة.
في ظل هذا الواقع المعقّد الذي تشهده البلاد بسبب تشابك التناقضات السياسية مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية، لا يبدو أنّ البلاد تتجه إلى حلٍ قريب، حتى بعد تشكيل حكومة برئاسة نجلاء بودن، التي يبدو أنّها مجرّد حكومة مساعدة للرئيس تأتمر بأمره وتنفذ قراراته وتعليماته وتهاجم خصومه، من دون أن يكون لها برنامج عمل محدّد يمكن أن يسهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية، حتى يمكن القول هنا إنّ اختيار بعض أعضائها، على غرار كمال قديش وليلى جفال وتوفيق شرف الدين، جاء في المقام الأول لرد الاعتبار لهؤلاء الأعضاء بعد أن أقالهم هشام المشيشي قبل "إجراءات" الرئيس في يونيو/ تموز الماضي.
إصرار سعيّد على إجراءاته سيقود تحت ضغط الشارع الذي يزداد غلياناً والأوضاع الاقتصادية والمالية التي تزداد سوءاً إلى ثورة جديدة "ثورة جياع"
وعلى الرغم من صعوبة الحكم بشأن الاتجاه الذي ستسلكه الأزمة التونسية بكل تشعّباتها خلال الفترة القريبة المقبلة، يمكن القول إنّ سيناريوهات تطوّر الأزمة التونسية في المرحلة الراهنة وفي المستقبل القريب لن تخرج عن سيناريوهين: الأول، إصرار الرئيس على إجراءاته وطريقته في الحكم من دون تغيير، ومن دون تقديم خريطة طريق توضّح مشروعه السياسي وخطته لإخراج البلاد من أزمتها، على الرغم من مطالبة أحزاب وتنظيمات نقابية ومدنية عديدة له بتقديم هذه الخطة، الأمر الذي سيقود تحت ضغط الشارع الذي يزداد غلياناً والأوضاع الاقتصادية والمالية التي تزداد سوءاً، وازدياد الأحزاب الرافضة إجراءاته إمّا إلى ثورة جديدة "ثورة جياع" تجتاح شوارع البلاد، الأمر الذي يضع سعيّد أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الرضوخ لمطالب الشارع والبدء بالتفاوض مع الأحزاب من جديد، للعودة إلى المسار الديمقراطي، أو على الأقل وضع خريطة طريقة توضّح مشروعه السياسي وخطته للمرحلة المقبلة، أو استخدام القوة لقمع المظاهرات والأصوات المندّدة بإجراءاته وباستمرار الأزمة السياسية، أو قد يقود إلى انقلابٍ عليه من الجيش أو الأجهزة الأمنية لبدء مرحلة انتقالية أو لعودة الحياة السياسية إلى سابق عهدها مع الأخذ بالاعتبار مطالب الشارع وبعض التطورات اللاحقة لإجراءات الرئيس سعيّد. ويتمثّل السيناريو الثاني باقتناع الرئيس التونسي بضرورة الانفتاح على النخب السياسية والاتحادات النقابية، وخصوصاً الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يتمتّع بثقة الجميع، مدفوعاً بضغوط المشكلات الاقتصادية والاجتماعية خشية تطوّر الأوضاع إلى فوضى عارمة قد تقود إلى "ثورة جياع".
الخيار الأنسب بدء حوار سياسي لا يستثني أحداً، تُوضع فيه خريطة طريقة واضحة، تركّز على عودة العمل بالدستور وتعديل قوانين الانتخاب
ويمكن أن تساهم مثل هذه القناعة جزئيا في حلحلة الأزمة السياسية وتخفيف حدّة الاستقطاب القائم حالياً، خصوصا في ظل تزايد الاحتقان في الشارع التونسي الذي بدأت تحرّكاته تشهد كثافة ملحوظة، نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وتدهور القدرة الشرائية للمواطن التونسي، وزيادة نسبة البطالة وإغلاق آلاف المؤسسات الاقتصادية وعجز الدولة عن الإيفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية إلى جانب تدهور الترقيم السيادي لتونس، وهي تقريباً الأسباب نفسها التي ثار عليها الشعب التونسي في 2011، فالشعب الذي ثار على زين العابدين بن علي من أجل الخبز والحرية والكرامة، سيثور على قيس سعيّد من أجل الخبز والحرية والكرامة أيضاً.
ومما يدفع نحو ترجيح هذا السيناريو إدراك الرئيس التونسي، غير المستند إلى كتلة حزبية أو برلمانية وغير المنتمي لمؤسسة عسكرية، لخطورة استمرار الوضع السياسي على حاله، في ظل ازدياد الرفض الداخلي لإجراءاته التي بدأت تتسّع وتتجذّر، وتراجع ثقة التونسيين بالرئيس بمقدار 11 نقطة مقارنةً بالشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) لتبلغ 66% حسب استطلاع رأي أجرته شركة "سيغما كونساي" المختصة بالشراكة مع صحيفة المغرب المحلية، إلى جانب تزايد الضغوط الخارجية والعزلة الدولية غير المسبوقة، ورفض المؤسسات المالية الدولية التعاون مع تونس، من دون تحقيق الاستقرار السياسي وتحديد مصير البرلمان المعلقة أشغاله إلى أجل غير مسمّى.
في حصيلة ما سبق، يعتمد رجحان أحد هذين الاحتمالين على الآخر في المقام الأول على نتائج التفاعل بين العوامل الداخلية والخارجية، وعلى قدرة الوسطاء على تحقيق تسوية تمنع انزلاق تونس نحو أزمة سياسية أعمق وأطول، فالمطلوب حالياً إيجاد حل يخرج البلاد، ولو جزئياً، من أزمتها السياسية التي تراكم معها أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية، فالعودة إلى الماضي مستحيلة والمراوحة في المكان مهلكة، بعد أن استوفت "الإجراءات الاستثنائية" المدة الكافية. لذا يبقى الخيار الأنسب بدء حوار سياسي لا يستثني أحداً، تُوضع فيه خريطة طريقة واضحة، تركّز على عودة العمل بالدستور وتعديل قوانين الانتخاب، وإجراء انتخابات مبكّرة ليمارس فيها الشعب سيادته، ويحسم الصراع القائم لوضع قطار تونس الخضراء على سكّة الديمقراطية من جديد.